الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الفصل الثاني في العزل فهو : على ثلاثة أضرب :

أحدها : أن يعزله الإمام المولي .

فإن كان عزله عن اجتهاد أدى إليه ، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه ، جاز أن يعزله .

وإن لم يؤده الاجتهاد إلى عزله لاستقلاله بالنظر في عمله على الصحة والاستقامة لم يكن له أن يعزله ؛ لأنه لا مصلحة في عزل مثله .

فإن عزله انعزل ، وإن كان الاجتهاد بخلافه .

لأن عزله حكم من أحكام الإمام لا يرد إذا لم يخالف نصا أو إجماعا . وعزله يكون بالقول فإن قلد غيره واقترن بتقليده شواهد العزل ، كان تقليد غيره عزلا له .

وإن لم تقترن به شواهد العزل كان الأول على ولايته والثاني مشاركا له في نظره .

وينعزل بعزله جميع خلفائه إن كان خاص العمل .

ولا ينعزل من ولاه على الأيتام والوقوف من أمنائه لنظرهم في حق غيره .

فإن نظر هذا المعزول قبل علمه بعزله ، ففي نفوذ أحكامه قولان كالوكيل إذا عقد بعد عزل موكله وقبل علمه :

أحدهما : أن أحكامه باطلة ، إذا قيل إن عقد الوكيل باطل .

والثاني : أن أحكامه جائزة ، إذا قيل إن عقد الوكيل جائز .

وقال بعض أصحابنا : بل أحكامه جائزة قولا واحدا ، وإن كانت عقود الوكيل على قولين .

وفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن القاضي ناظر في حق غير المولي ، والوكيل ناظر في حق الموكل .

والثاني : أن موت الإمام المولي لا يوجب عزل القاضي وموت الموكل موجب لعزل الوكيل ، فقوي القاضي بهذين الفرقين على الوكيل ، فصح لأجلها أحكام القاضي وإن لم تصح عقود الوكيل .

والضرب الثاني : أن يعزل نفسه .

فإن كان لعذر جاز اعتزاله وإن كان لغير عذر منع من الاعتزال وإن لم يجبر عليه ؛ لأن ولاية القضاء من العقود الجائزة دون اللازمة ولذلك نفذ فيه عزل الإمام وإن خالف [ ص: 334 ] الأولى ، لكن لا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه ؛ لأنه موكول لعمل يحرم عليه إضاعته .

وعلى الإمام أن يعفيه من النظر إذا وجد غيره حتى لا يخلو العمل من ناظر .

فإن أعفاه قبل ارتياد غيره ، جاز إن كان لا يتعذر ولم يجز إن تعذر .

ويتم عزله باستعفائه وإعفائه ولا يتم بأحدهما .

فإن نظر بين استعفائه وإعفائه صح نظره .

ولا يكون قوله قد عزلت نفسي عزلا : لأن العزل يكون من المولي وهو لا يجوز أن يولي نفسه فلم يجز أن يعزلها ، وإنما هو أن يستعفي فيعفى .

والضرب الثالث : أن تحدث أسباب العزل وهي على ثلاثة أضرب : موت وعجز وجرح .

فأما الموت : فهو موت المولي فلا يخلو المولي من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون إماما عام الولاية على القضاء وغيره فلا تبطل بموته ولايات القضاة ، وإن بطل بموت الموكل وكالة الوكيل ؛ لأن تولية الإمام للقاضي استنابة في حقوق المسلمين لا في حق نفسه ، بخلاف الوكيل المستناب في حق موكله .

قد قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد قضاء مكة وصدقات أهلها فلما مات اختبأ عتاب وامتنع من القضاء فأظهره سهيل بن عمرو وقال : إن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فإن المسلمين باقون ، فعاد عتاب إلى نظره ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فصار إجماعا .

والحال الثانية : أن يكون المولي قاضي ناحية أو صقع قد استخلف فيه من ينوب عنه في القضاء ، فيكون موته مبطلا لولايات خلفائه لمعنيين :

أحدهما : أنه خاص النظر خاص العمل ، فخالف موت الإمام في عموم نظره وعموم عمله .

والثاني : أن الإمام يقدر على استدراك الأمر في موته بتقليد غيره .

والحال الثالثة : أن يكون المولي هو قاضي القضاة العام الولاية في جميع الأمصار فهو عام العمل خاص النظر .

فعموم عمله : أنه وال على البلاد كلها .

وخصوص نظره : أنه مقصور على القضاء دون غيره .

فشابه الإمام في عموم عمله ، وخالفه في خصوص نظره .

ففي انعزال القضاة بموته وجهان :

[ ص: 335 ] أحدهما : لا ينعزلون لعموم نظره كالإمام .

والوجه الثاني : ينعزلون بموته لخصوص نظره كقاضي إقليم .

وأما العجز : فهو أن يحدث في القاضي عجز يمنعه من النظر فهو على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما يمنع من التقليد كالعمى والخرس فقد انعزل بحدوثه فيه .

والضرب الثاني : ما لا يمنع من التقليد كالزمانة فلا ينعزل بها : لأنه يعجز بها عن النهضة ولا يعجز بها عن الحكم .

والضرب الثالث : المرض فإن أعجزه عن النهضة ولم يعجزه عن الحكم لم ينعزل به وإن أعجزه عن النهضة والحكم فإن كان مرجو الزوال لم ينعزل به ، وإن كان غير مرجو الزوال انعزل به .

وأما الجرح : وهو الفسق فإن حدث في المولي كان كموته : لأنه ينعزل بالفسق ، كما ينعزل بالموت ، فيكون على ما مضى من اختلاف أحوال المولي .

وإن حدث الفسق في القاضي المولى فإن استدامه مصرا عليه أنزل به .

وإن حدث الفسق في القاضي المولي فإن استدامه مصرا عليه انعزل به .

وإن كان إقلاعه عن ندم وتوبة ، نظر ، فإن كان فسقه قد ظهر قبل التوبة انعزل به .

وإن لم يظهر حتى تاب منه لم ينعزل به لانتفاء العصمة عنه . وإن هفوات ذوي الهيئات مقالة قل أن يسلم منها إلا من عصم .

وإذا انعزل بالفسق فحكم في حال انعزاله فإن كان إلزاما بإقرار صح ، وإن كان حكما بشهادة بطل .

وعليه أن يمتنع من الحكم وينهي حاله إلى الإمام إلى من ولاه من القضاء ليقلد غيره ولا يغتر به الناس إن لم يعرفوه وتقف أحكامهم إن عرفوه .

وهو في إنهاء حاله بين أمرين : إما أن يظهر الاستعفاف ويكتم حاله ليكون حافظا لستره ، وهو أولاهما ، وإما أن يخبر بحاله وسبب انعزاله ، وإن كره له هتك ستره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله " وإن خرج بكل واحد منهما من مأثم الإمساك .

التالي السابق


الخدمات العلمية