فصل : والضرب الثاني : ما كان من حقوق الآدميين ، وهي تنقسم ثلاثة أقسام تختلف في الجنس والعدد :  
أحدها : وهو أوسعها ، وهو  
ما يقبل فيه شاهدان  وشاهد وامرأتان  ،  
وشاهد ويمين ،  وهو المال وما كان مقصوده المال ،  
لقول الله تعالى :  واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان     [ البقرة : 282 ] . وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين .  
والقول الثاني :  
ما يقبل فيه شهادة النساء منفردات  ، وهو الولادة ، والاستهلال ، والرضاع ، وما لا يجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب من العيوب المستورة بالعورة ، فيقبل فيه أربع نسوة ، وجوز  
أبو حنيفة   في الولادة قبول شهادة القابلة وحدها ، والكلام معه يأتي .  
فإن شهد بذلك شاهدان ، أو شاهد وامرأتان ، قبل ، لأن شهادة الرجال أغلظ ، ولا يقبل فيه شاهد ويمين .  
والقسم الثاني :  
ما يقبل فيه شهادة رجلين ولا يقبل فيه شهادة النساء بحال  ، وهو كل ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، ويجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب ، كالنكاح ، والطلاق ، والخلع ، والرجعة ، والقصاص ، والقذف ، والعتق ، والنسب ، والكتابة ، والتدبير ، وعقد الوكالة ، والوصية ، فلا يقبل في جميع ذلك شهادة النساء .  
وبه قال  
مالك   ،  
والأوزاعي   ،  
والنخعي   ، وأكثر الفقهاء .  
وقال  
أبو حنيفة   ، وأصحابه ،  
وسفيان الثوري      : أقبل في جميع ذلك شهادة رجل وامرأتين إلا في القصاص والقذف ، استدلالا بقول الله تعالى :  
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان     [ البقرة : 282 ] . فكان محمولا على عمومه في كل حق إلا ما خصه دليل .   
[ ص: 9 ] قالوا : ولأنه حتى يثبت مع الشبهة ، فجاز أن يثبت بشاهد وامرأتين كالأموال .  
ودليلنا أن الله تعالى نص في الشهادة فيما سوى الأموال على الرجال دون النساء في ثلاثة مواضع في الطلاق والرجعة والوصية ، فقال تعالى :  
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم     [ الطلاق : 2 ] . وقال في الوصية :  
إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم     [ المائدة : 106 ] . فنص على شهادة الرجال ، فلم يجز أن يقبل فيه شهادة النساء كالزنى .  
فروى  
مالك   ، عن  
عقيل   ، عن  
ابن شهاب   ، قال :  
مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود ، ولا في النكاح ، ولا في الطلاق     .  
وهذا وإن كان مرسلا ، فهو لازم لهم ، لأن المراسيل حجة عندهم ، ولأن كلما لم يكن المقصود منه المال إذا لم يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ، لم يقبلن فيه مع الرجال ، كالقصاص .  
وإن اعترضوا بالوكالة والوصية أن المال يتعلق بهما ، فهلا جاز إثباتهما بشاهد وامرأتين ؟  
قيل : ليس في عقد الوكالة والوصية مال ، وإنما أريد بهما التصرف في المال ، وإنما هي تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره ، ولأن الحقوق ضربان : حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فلما وقع الفرق في حقوق الله تعالى ، بين أعلاها وأدناها في العدد . فأعلاها الزنى ، وأدناها الخمر ، وجب أن يقع الفرق في حقوق الآدميين بين أعلاها وأدناها في الجنس ، فأعلاها حقوق الأبدان ، وأدناها حقوق الأموال ، فأما الجواب عن الآية ، فهو أنها نص في الأموال ، فلم يصح استعمال العموم فيها .  
وأما الجواب عن قياسهم على الأموال ، فهو أنه يصح الإبراء منها والإباحة لها .