الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " واختلفوا في عددها ، فقال عطاء لا يكون في شهادة النساء لا رجل معهن في أمر النساء - أقل من أربع عدول ، قال الشافعي رحمه الله : وبهذا نأخذ ، ولما ذكر الله النساء فجعل امرأتين يقومان مقام رجل في الموضع الذي أجازهما فيه ، دل والله أعلم إذ أجاز المسلمون شهادة النساء في موضع - أن لا يجوز منهن إلا أربع عدول : لأن ذلك معنى حكم الله عز وجل ، قال الشافعي وقلت لمن يجيز شهادة امرأة في الولادة كما يجيز الخبر بها لا من قبل الشهادة ، وأين الخبر من الشهادة ؟ أتقبل امرأة عن امرأة أن امرأة رجل ولدت هذا الولد ؟ قال : لا ، قلت : فتقبل في الخبر ؟ أخبرنا [ ص: 21 ] فلان عن فلان ؟ قال : نعم قلت : فالخبر هو ما استوى فيه المخبر ، والمخبر ، والعامة ، من حلال أو حرام ؟ قال : نعم ، قلت : والشهادة ما كان الشاهد منه خليا ، والعامة إنما تلزم المشهود عليه ؟ قال : نعم . قلت : أفترى هذا مشبها لهذا ؟ قال : أما في هذا فلا " .

قال الماوردي : وإذ قد مضى ما يقبل فيه شهادة النساء منفردات ، فقد اختلف الفقهاء في عدد المقبول منهن على خمسة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي ، وبه قال عطاء ، أنه لا يقبل أقل من أربع نسوة .

والثاني : وهو مروي عن أنس ، ويحكى عن عثمان البتي ، أنه يقبل فيه ثلاثة نسوة ، ولا يقبل أقل منهن .

والثالث : وهو مذهب مالك ، والثوري : أنه يقبل شهادة امرأتين .

والرابع : وهو مذهب الحسن البصري ، وبه قال ابن عباس : يقبل في الولادة شهادة القابلة وحدها ، ولا يقبل شهادة غير القابلة إلا مع غيرها .

والخامس : وهو مذهب أبي حنيفة ، يقبل فيه شهادة المرأة ، القابلة كانت أو غير قابلة إلا ولادة المطلقة ، فلا يقبل فيه شهادة الواحدة ، استدلالا بما روى ابن المدائني عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أجاز شهادة القابلة " وبما روي عن علي عليه السلام : " أنه أجاز شهادتها " ، ولا مخالف له ، فكان هذا نصا وإجماعا ، ولأنها شهادة تتضمن معنى الخبر ، فلما قبلت وحدها في الأخبار ، قبلت في هذه الشهادة ، ولأنها حال يحتشم فيها من عدا القابلة ، فجاز قبول شهادتها وحدها ، اعتبارا بالضرورة .

ولأنه لما استوى رد الواحد ومن زاد عليها في الموضع الذي لا يقبلن فيه وجب أن تكون الواحدة مساوية لمن زاد عليها في الموضع الذي تقبل فيه .

وأما مالك فاستدل بأنهن لما قمن في انفرادهن بالقبول مقام الرجال ، وجب أن يقمن في العدد مقام الرجال في القبول ، وأكثر عدد الرجال اثنان ، فاقتضى أن يكون أكثر عدد النساء اثنتين ، وأما البتي فاستدل بأن الله تعالى ضم شهادة المرأتين للرجل في الموضع الذي لا ينفردن فيه ، فوجب أن يستبدل الرجل بامرأة في الموضع الذي ينفردن فيه فيصيرون ثلاثا .

ودليلنا على جميعهم أن شهادة النساء أنقص من شهادة الرجال من وجهين :

[ ص: 22 ] أحدهما : أن الله تعالى أجاز شهادة امرأتين مقام شهادة رجل بقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان [ البقرة : 282 ] .

والثاني : أنهن لا يقبلن في مواضع يقبل فيها شهادة الرجال ، ويقبل الرجال في المواضع الذي يقبل فيها شهادة النساء ، فلما لم يقبل شهادة الواحد من الرجال مع قوته ، فأولى أن لا تقبل شهادة الواحدة من النساء مع ضعفها .

ولأنها شهادة ينفرد المشهود عليه بالتزامها ، فوجب أن يفتقر إلى العدد كسائر الحقوق ، وقد حكى المزني قول الشافعي " والشهادة ما كان الشاهد منه خليا " ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أن يكون الشاهد خليا من نفع يعود عليه بالشهادة ، ليوضح به الفرق بين الشهادة والأخبار التي تقبل وإن عادت بنفع على المخبر .

والثاني : أن يكون خليا أن يتعلق عليه بالشهادة حكم ، فإن الوارثين إذا شهدا بدين على الميت كان ما عليهما منه واجبا بإقرارهما ، وما على غيرهما منه واجبا بشهادتهما ، ويدل على أبي حنيفة خاصة أنها شهادة على ولادة ، فلم يقبل فيها شهادة واحدة كالشهادة على ولادة المطلقة .

فأما الجواب عن الحديث في شهادة القابلة مع ضعفه وأن المدائني تفرد بروايته ، وهو ضعيف عند أصحاب الحديث ، فلا دليل فيه ، لأنه قبلها ولم ينفرد بقبولها وحدها ، وتكون فائدة الحديث أنها وإن باشرت أحوال الولادة ، فلا يمنع ذلك من قبول شهادتها ، وكذلك المروي عن علي عليه السلام .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن فيها معنى الخبر فمن وجهين :

أحدهما : أنها لو جرت مجرى الخبر لقبل فيها شهادة العبد والأمة ، كما يقبل غيرهما ولقبلت شهادة المرأة عن المرأة كما يقبل خبر المرأة عن المرأة ، وقد قال الشافعي : " يقبل خبر المعنعن ولا تقبل شهادة المعنعن " ، يعني فلانا عن فلان عن فلان .

والثاني : أن الخبر يتساوى فيه المخبر والمخبر في الالتزام والانتفاع ، ولا يتساوى الشاهد ومن شهد له وعليه .

وأما الجواب عن استدلالهم باحتشام من عدا القابلة فمن وجهين :

أحدهما : أن العرف جار باجتماع النساء عند الولادة للتعاون وفضل المراعاة .

والثاني : أن هذا المعنى يقتضي أن لا تقبل شهادة غير القابلة وهو أن يكون [ ص: 23 ] للحسن دليل .

وأما الجواب عن الاستدلال بالرد والإجازة فمن وجهين :

أحدهما : أنه اعتبار بالضد ، لأنه اعتبر الإجازة بالرد ، والرد ضد الإجازة ، والشيء إنما يعتبر بنظيره ولا يعتبر بضده .

والثاني : أنه لو جاز هذا الاعتبار لجاز أن يقال : لما رد بالفسق شهادة الواحد والعدد ، وجب أن يقبل بالعدالة شهادة الواحد والعدد ، وهذا غير جائز ، فوجب أن يكون ما ذكروه أيضا غير جائز .

التالي السابق


الخدمات العلمية