فصل : فإذا استقر بقذفه وجوب الأحكام الثلاثة ، فإن  
من قذف لم يسقط عنه بالتوبة الجلد  باتفاق ، وزال فسقه باتفاق ، واختلف في  
قبول شهادته بعد التوبة  ، فذهب  
الشافعي   في ذلك ، وفقهاء الحرمين إلى قبول شهادته قبل الجلد وبعده ، وهو قول  
عمر بن الخطاب   رضي الله عنه ، وبه قال  
الزهري   والأوزاعي   ،  
والشعبي   ،  
وأحمد   ،  
وإسحاق      .  
وقال  
أبو حنيفة      : لا أقبل شهادته بعد الجلد أبدا وبه قال  
شريح   ،  
والحسن البصري   ،  
والنخعي   ،  
والثوري   ، استدلالا بقول الله تعالى :  
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا  وما أبد الله حكمه لم يزل .  
وبرواية  
عائشة  رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  
nindex.php?page=hadith&LINKID=925630ولا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في قذف     " .  
قالوا : وهذا نص لا يرتفع بالتوبة ، ولأن ما تعلق بالقذف من حقوق الآدميين لم يسقط بالتوبة كالجلد والشهادة من حقوق الآدميين . والدليل على قبول شهادته بعد التوبة قول الله تعالى :  
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا     [ النور : 4 ] .  
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم   [ ص: 26 ]    [ النور : 5 ] . والاستدلال بها من ثلاثة أوجه :  
أحدها : أن الاستثناء بالتوبة ، يرفع حكم ما تقدم ، والاستثناء إذا انعطف على جملة عاد إلى جميعها ، ولم يختص ببعضها ، كقوله زينب طالق ، وسالم حر إن شاء الله ، يعود الاستثناء إليهما ، ولا يختص بأقربهما ، فلا تطلق زينب كما لم يعتق سالم .  
والثاني : أن الجلد ورد الشهادة حكمان ، والفسق علة ، والاستثناء راجع إلى الحكم دون العلة .  
كما لو قال : إن دخل زيد الدار وجلس ، فأعطه درهما ، لأنه صديق ، فدخل ولم يجلس ، فلم يستحق الدرهم ، وكان على الصداقة ، لأن الدرهم جزاء ، والصداقة علة .  
والثالث : أن الفسق إخبار عن ماض ، ورد الشهادة حكم مستقبل والاستثناء يرجع إلى مستقبل الأحكام ، ولا يرجع إلى ماضي الأخبار . واعترضوا على الاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه :  
أحدها : أنه لما لم يعد الاستثناء بالتوبة إلى الجلد منع من حمله على العموم ، ودل على اختصاصه بأقرب مذكور ، وهو الفسق دون رد الشهادة ، وإن كان من مذهبهم أن الاستثناء يختص بأقرب مذكور ، عنه جوابان :  
أحدهما : أنه لم يعدل إلى الجلد لدليل خصه ، وهو أنه حق آدمي ، فبقي ما عداه على حكم أصله .  
والثاني : أن الفسق علة في رد الشهادة ، وارتفاع العلة موجب لرفع حكمها ، وليس الفسق علة في وجوب الحد . فلذلك ارتفع رد الشهادة ، ولم يرتفع وجوب الحد .  
والاعتراض الثاني : أن قالوا : فقوله  
إلا الذين تابوا  عائد إلى ما بعده من الكلام لا إلى ما قبله ، لأنه قال :  
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم     [ النور : 5 ] . أي : إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله يغفر لهم ، ويرحمهم فتعود التوبة إلى الغفران والرحمة ، ولا تعود إلى الفسق ورد الشهادة ، لئلا يصير ما بعده من الكلام منقطعا وعنه جوابان :  
أحدهما : أن قوله : فإن الله غفور رحيم صفة لذاته لا تتعلق باستثناء ولا شرط .   
[ ص: 27 ] والثاني : أنه لما كان قوله في آية الحرابة :  
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم     [ المائدة : 34 ] . استثناء يعود إلى ما قبله ، وإن كان ما بعده منقطعا ، لأنه صفة ، كذلك صفة هذا في هذه الآية .
والاعتراض الثالث : أن قالوا : رد الشهادة حكم ، والفسق تسمية ، والخطاب إذا اشتمل على حكم وتسمية وتعقبها استثناء يعود إلى التسمية دون الحكم ، كقوله : أعط زيدا وعمرا الفاسق إلا أن يتوب يعني فإنه لا يكون فاسقا ، وعنه جوابان :  
أحدهما : أن الفسق ورد الشهادة حكمان ، فلم يسلم لهم ما ادعوا .  
والثاني : أنه لو جاز الفرق بينهما ، لكان عود الاستثناء بالتوبة إلى الحكم أولى من عوده إلى الاسم ، لأن التوبة تغير الأحكام ولا تغير الأسماء ، ثم تدل على المسألة بقول الله تعالى :  
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات     [ الشورى : 42 ] ، فأخبر أن التوبة توجب القبول والعفو ، وهم حملوها على القبول دون العفو ، ولذلك قال لهم  
الشعبي      : يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته ؟  
ثم يدل عليه من جهة السنة : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  
التوبة تجب ما قبلها     "  
أي : تقطعه ، وترفعه ، فوجب حمله على العموم دون الخصوص .  
ويدل عليه إجماع الصحابة ، وهو  أن  
عمر بن الخطاب   لما جلد  
أبا بكرة   في شهادته على  
المغيرة   بالزنى ، قال له : تب أقبل شهادتك ، فقال : لا أتوب  ، وكان هذا القول منه بمشهد من الصحابة : لأنها قصة اجتمعوا لها ، فما أنكر قوله أحد منهم ، فدل على إجماعهم .  
والدليل عليه من الاعتبار : أن الشهادة إذا ردت بفسق قبلت بزوال الفسق ؟ قياسا على جميع ما يفسق به .  
ولأن من قبلت شهادته بالتوبة قبل الحد ، قبلت بالتوبة بعد الحد قياسا على سائر الحدود .  
ولأنه محدود في قذف ، فوجب أن تقبل شهادته من بعد التوبة ، قياسا على الذمي إذا حد في قذف ثم أسلم .  
ولأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى لتردد القذف بين الصدق والكذب ، فلما قبلت شهادته بالتوبة من أغلظ الإثمين قبل الحد وبعده كان قبوله بالتوبة من أخفهما قبل الحد وبعده أولى .  
ولأنه لما عاد إلى العدالة في قبول روايته وجب أن يعود إليها في قبول شهادته ،      
[ ص: 28 ] وقد كان  
أبو بكرة   على إصراره يستروى فيروي ويستشهد فلا يشهد .  
فأما الجواب عن استدلالهم بأن الله عز وجل جعل رد الشهادة مؤبدا ، فهو مشروط الإطلاق بعدم التسوية ومستثنى التأييد بالتوبة .  
وأما الجواب عن حديث  
عائشة  رضي الله عنها ، فهو استعماله فيمن لم يتب أصلا .  
وأما الجواب عن استدلالهم بأن الشهادة من حقوق الآدميين ، فهو أنها مشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين لقول الله تعالى :  
وأقيموا الشهادة لله     [ الطلاق : 2 ] .