الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " والتوبة إكذابه نفسه لأنه أذنب بأن نطق بالقذف والتوبة منه أن يقول : القذف باطل ، كما تكون الردة بالقول ، والتوبة عنها بالقول . فإن كان عدلا قبلت شهادته ، وإلا فحتى يحسن حاله ، قال الشافعي : أخبرنا سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول : زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز ، فأشهد لأخبرني ، ثم سمى الذي أخبره أن عمر قال لأبي بكرة تب تقبل شهادتك أو قال إن تبت قبلت شهادتك . قال : وبلغني عن ابن عباس مثل معنى هذا وقال ابن أبي نجيح : كلنا نقوله ، قلت : من ؟ قال : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وقال الشعبي : يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته ؟ وقال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات لأهلها فكيف تردونها في أحسن حالاته وتقبلونها في شر حالاته ؟ وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف لا تقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا " .

قال الماوردي : اعلم أن القاذف إذا حقق قذفه بما قدمناه كان على عدالته وقبول شهادته ، وإن لم يحققه تعلق به ما ذكرنا من الأحكام الثلاثة ، وإن لم يتب من قذفه استقرت الأحكام فيه ، وإن تاب ارتفع ما سوى الجلد ، فلزم أن نذكر شروط التوبة ، وشروطها يختلف باختلاف الذنب ، للذنب حالتان .

إحداهما : أن يتعلق به حق .

والثاني : أن لا يتعلق به حق ، فإن لم يتعلق بالذنب حق سوى الإثم كمن قبل أجنبية أو استمتع بما دون الفرج منها فمأثم هذا الذنب مختص بحق الله تعالى لا يتجاوزه إلى مخلوق ، فالتوبة منه تكون بشرطين :

[ ص: 29 ] أحدهما : الندم على ما فعل ، والعزم على ترك مثله في المستقبل ، فتصح توبته بهما ، قال الله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم [ آل عمران : 135 ، 136 ] . قوله فاستغفروا لذنوبهم يريد به الندم ، لأن ظهوره يكون بالاستغفار ، وقوله : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون هو العزم على تركه من بعد وقبل توبته بالاستغفار ، وترك الإصرار ، لأنها توبة في الظاهر والباطن ، وهي في الباطن الندم عليه والعزم على ترك مثله ، فإن كان هذا الذنب باطنا أقنع فيه التوبة الباطنة ، وإن كان ظاهرا أقنع فيما بينه وبين الله تعالى التوبة الباطنة ، ولم يقنع فيما بينه وبين العباد إلا التوبة الظاهرة ، فإن تجاوز مأثم هذا الذنب حق الله تعالى إلى أن أثم به في حقوق العباد وإن لم يتعلق به غرم ولا حد ، كمن تعدى بضرب إنسان فآلمه احتاج مع التوبة في حق الله تعالى بالندم والعزم إلى استحلال المضروب باستطابة نفسه ، ليزول عنه الإثم في حقه ، فإن أحله منه عفوا وإلا مكنه من نفسه ليقاتله على مثل فعله ، وإن كان لا يجب عليه في الحكم قصاص ولا غرم ، لأننا نعتبر في القصاص المماثلة ، وهي هاهنا متعذرة ، ويعتبر في التوبة : الانقياد ، والطاعة ، وهي هاهنا موجودة ، وروى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء ، فرأى رجلا يصلي مع النساء ، فضربه بالدرة ، فقال الرجل : والله لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني ، وإن كنت أسأت فما أعلمتني ، فقال عمر : أما شهدت عزمتي ؟ قال : ما شهدت لك عزمة ، فألقى إليه الدرة ، وقال : اقتص قال : لا أقتص اليوم ، قال : فاعف قال : لا أعفو ، فافترقا على ذلك ، ثم لقيه من الغد ، فتغير لون عمر ، فقال له الرجل : يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك ، قال : أجل قال : فأشهدك أني قد عفوت عنك .

فبذل له القصاص من الضرب وإن لم يجب ليزول عنه مأثم الخطأ في حقه ، وإن كان الخطأ في حق الله عفوا ، فإن قاد نفسه ، فلم يستوف منه صحت توبته ، لأن عليه الانقياد ، وليس عليه الاستيفاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية