الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما المعصية بالقول فضربان :

أحدهما : ردة في الدين يتعلق بها حق الله تعالى .

والثاني : قذف بالزنى يتعلق به حق آدمي .

فأما الردة عن الإسلام فالتوبة عنها بعد الندم والعزم ، يكون بما أسلم به الكافر من الشهادتين ، والبراءة من كل دين خالف الإسلام : لأنه لما كانت معصيته بالقول كانت توبته بالقول ، كما أن معصية الزنى لما كانت بالفعل كانت التوبة منها بالفعل ، فإذا أتى المرتد بما يكون به تائبا عاد إلى حاله قبل ردته ، فإن كان من لا تقبل شهادته قبل ردته لم تقبل بعد توبته حتى تظهر منه شروط العدالة ، وإن كان ممن تقبل شهادته قبل الردة نظر في التوبة ، فإن كانت عنه اتقاء منه للقتل ، لم تقبل شهادته بعد التوبة ، إلا أن تظهر منه شروط العدالة باستبراء حاله وصلاح عمله ، وإن تاب من الردة عفوا غير متق بها القتل ، عاد بعد التوبة إلى عدالته .

وأما القذف بالزنى ، وهو مسألة الكتاب ، فلا يكون بعد الندم والعزم إلا بالقول ، لأنه معصية بالقول كالردة ، فيعتبر في صحة توبته ثلاثة شروط :

أحدها : الندم على قذفه .

[ ص: 32 ] والثاني : العزم على ترك مثله .

والثالث : إكذاب نفسه على ما قاله الشافعي ، فاختلف أصحابنا في تأويله على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي سعيد الإصطخري ، أنه محمول على ظاهره ، وهو أن يقول : وإني كاذب في قذفي له بالزنى ، وقد روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " توبة القاذف إكذابه نفسه " .

والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة أن إكذابه نفسه أن يقول : قذفي له بالزنى كان باطلا ولا يقول : كنت كاذبا في قذفي ، لجواز أن يكون صادقا ، فيصير عاصيا بكذبه ، كما كان عاصيا بقذفه ، وهل يحتاج أن يقول في التوبة : ولا أعود إلى مثله أو لا ؟ فيه وجهان :

أحدهما : لا يحتاج إليه ، لأن العزم على ترك مثله يغني عنه .

والوجه الثاني : لا بد أن يقول لا أعود إلى مثله ، لأن القول في هذه التوبة معتبر ، والعزم ليس بقول ، وإذا كانت التوبة من القذف معتبرة بهذه الشروط ، فالقذف على ضربين : قذف نسب ، وقذف شهادة .

وأما قذف النسب ، فلا يخلو حال التائب من أن يكون قبل القذف من أهل الشهادة أو من غير أهلها ، فإن كان من أهل الشهادة ، لم تقبل شهادته بعد التوبة إلا باستبراء حاله ، وصلاح عمله ، لقول الله تعالى : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ النور : 5 ] . وإن كان قبل القذف عدلا من أهل الشهادة ، فهل يراعى في قبول شهادته بعد التوبة صلاح عمله أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : لا تقبل شهادته إلا بعد استبراء حاله وصلاح عمله لارتفاع ما تقدم من العدالة بما حدث من الفسق .

والوجه الثاني : تقبل شهادته ، وتثبت عدالته بحدوث توبته ، لأنها رافعة لحكم فسقه .

وأما قذف الشهادة إذا لم يستكمل عدد الشهود ، ففي وجوب حدهم قولان :

أحدهما : لا حد عليهم ، فعلى هذا يكونون على عدالتهم ، ولا يؤخذون بالتوبة ، لأنهم قصدوا إقامة حد الله تعالى .

[ ص: 33 ] والقول الثاني : الحد عليهم واجب لأن عمر رضي الله عنه حدهم حين لم يكمل عددهم فعلى هذا يحكم بفسقهم ، ويجب عليهم التوبة من فسقهم ، ويعتبر في توبتهم من الشروط المتقدمة في قذف النسب أن يقول : قذفي باطل ، لا يحتاج إلى الندم وترك العزم لأنها شهادة في حق الله تعالى ، ولا أن يقول : إني كاذب ولا يقول : لا أعود إلى مثله لأنه لو كمل عدد الشهود لزمه أن يشهد ، فإن تاب قبلت شهادته بعد توبته من غير استبراء لحاله ، وصلاح عمله ، لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ، وما يجوز للإمام إذا حده أن يقول له مثل قول عمر لأبي بكرة تب أقبل شهادتك .

وقال مالك : لا أعرف لقوله ذلك وجها ، وهذا رد منه على عمر في قول انتشر في الصحابة ، فوافقوه عليه ، وإن لم يتب من قذفه لم تقبل شهادته ، وقبلت روايته لأن أبا بكرة لم يتب فقبلت روايته ولم تقبل شهادته .

والفرق بين الشهادة والرواية تغليظ الشهادة حين لم تقبل من واحد ، وتخفيف الرواية حين قبلت من واحد .

فأما قذف النسب ، فلا يقبل من قاذفه قبل التوبة شهادة ولا تسمع له رواية : لأن الفسق بقذف النسب نص ، وبقذف الشهادة اجتهاد ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية