الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فبذلك قلنا : لا تجوز شهادة أعمى ، لأن الصوت يشبه الصوت ، إلا أن يكون أثبت شيئا يعاينه وسمعا ونسبا ثم عمي فيجوز ، ولا علة في رده قال : والشهادة على ملك الرجل الدار والثوب على ظاهر الأخبار بأنه مالك ولا يرى منازعا في ذلك فتثبت معرفته في القلب ، فتسمع الشهادة عليه وعلى [ ص: 40 ] النسب إذا سمعه ينسبه زمانا وسمع غيره ينسبه إلى نسبه ولم يسمع دافعا ولا دلالة يرتاب بها "

قال الماوردي : وهذا صحيح . وشهادة الأعمى يختلف قبولها باختلاف ما رتبناه من أقسام الشهادات الثلاثة مما كان طريق العلم به المعاينة بالبصر كالأفعال .

فشهادة الأعمى مردودة بإجماع لفقد آلته بذهاب بصره فيما يصير عالما به ، وما كان طريق العلم به السماع كالأنساب ، والأملاك ، والموت ، فشهادة الأعمى مقبولة فيه ، لمساواته للبصير في إدراكها بالسمع المتكافئان فيه .

ولو تحمل الشهادة على الأفعال ، وهو بصير ثم عمي ، قبلت شهادته ، وعند أبي حنيفة أنها مردودة فيما يدرك بالسمع ، كردها فيما يدرك بالبصر ، وأجرى العمى مجرى الفسق حين قال : لو سمع الحاكم شهادته ، وهو بصير فلم يحكم بها حتى عمي لم يجز أن يحكم بها بعد عماه ، كما لم يجز أن يحكم بشهادة من حدث فسقه بعد الشهادة وقبل الحكم ، وبه قال محمد بن الحسن ، وخالفهما بالمصير إلى قولنا أبو يوسف ، واستدل بأن الكمال معتبر في الشهادة كاعتباره في ولاية الإمامة ، والقضاء لاعتبار الحرية والعدالة في جميعها ، فلا يجوز فيهما تقليد عبد ، ولا فاسق ، ولا أعمى ، فوجب إذا رد في الشهادة العبد والفاسق أن يرد فيها شهادة الأعمى ، قالوا : ولأن من لم تقبل شهادته في الأفعال لم تقبل في الأقوال ، كالعبد والفاسق .

ودليلنا هو أن ما أدرك بالسماع استوى فيه الأعمى والبصير ، كما أن ما أدرك بالبصر استوى فيه الأصم والسميع لاختصاص العلم بجارحته المحسوس بها ، ولأنه فقد عضو لا يدرك به الشهادة ، فلم يعتبر في صحتها مع إمكان إدراكها كقطع اليد .

ولأن الشهادة على الإنسان لا تؤثر فيها فقد رؤية المشهود عليه كالشهادة على ميت أو غائب ، والدليل على أن حدوث العمى بعد صحة الأداء لا يمنع من إمضاء الحكم بها - أن الموت المبطل لحاسة البصر وجميع الحواس ، إذا لم يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة ، فذهاب البصر مع بقاء غيره من الحواس أولى أن لا يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة ، ولأنه لما جاز للأصم أن يشهد بما اختص بالمعاينة ، وإن فقد حاسة السمع جاز للأعمى أن يشهد بما اختص بالسماع ، وإن فقد حاسة البصر ، لاختصاص الاعتبار بالحاسة المدركة ، واعتبار الشهادة بالولاية يبطل ، فالمرأة تجوز شهادتها وإن لم تصح ولايتها .

وأما الجواب عن قياسهم على الأفعال ، فهو أن ما أدركت به الأفعال - مفقود في الأعمى ، وما أدركت به الأقوال موجود فيه فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية