الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 107 ] باب موضع اليمين

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " من ادعى مالا فأقام عليه شاهدا ، أو ادعي عليه مال أو جناية خطأ ، بأن بلغ ذلك عشرين دينارا ، أو ادعى عبد عتقا تبلغ قيمته عشرين دينارا ، أو ادعى جراحة عمد صغرت أو كبرت ، أو في طلاق ، أو لعان ، أو حد ، أو رد يمين في ذلك ، فإن كان الحكم بمكة كانت اليمين بين المقام والبيت ، وإن كان بالمدينة ، كانت على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ببلد غير مكة والمدينة أحلف بعد العصر في مسجد ذلك البلد بما تؤكد به الأيمان ويتلى عليه إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية قال وهذا قول حكام المكيين ومفتيهم ومن حجتهم فيه أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت فقال أعلى دم ؟ قالوا : لا ، قال : فعلى أمر عظيم ؟ قالوا : لا ، قال : لقد خشيت يتهاون الناس بهذا المقام ، قال : فذهبوا إلى أن العظيم من الأموال ما وصفت من عشرين دينارا فصاعدا ، قال ابن أبي مليكة : كتب إلي ابن عباس في جاريتين ضربت إحداهما الأخرى : أن أحبسهما بعد العصر ثم أقرأ عليهما إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ، ففعلت ، فاعترفت ، قال : واستدللت بقول الله جل ثناؤه تحبسونهما من بعد الصلاة " قال المفسرون : صلاة العصر على تأكيد اليمين على الحالف في الوقت الذي تعظم فيه اليمين ، وبكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه يحلف عند المنبر ، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بلغني أن عمر حلف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة بينه وبين رجل ، وأن عثمان ردت عليه اليمين على المنبر فاتقاها ، وقال : أخاف أن توافق قدر بلاء ، فيمال بيمينه ، قال : وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل العلم ببلدنا دار السنة والهجرة ، وحرم الله عز وجل ، وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدينا .

قال الماوردي : الأيمان موضوعة للزجر ، حتى لا يتعدى طالب ، ولا مطلوب ، فجاز تغليظها بما ساغ في الشرع من التغليظ بالمكان والزمان ، والعدد ، واللفظ ، وهو مذهب الشافعي ومالك ، وأهل الحرمين بمكة والمدينة وجمهور الفقهاء .

[ ص: 108 ] وجوز أبو حنيفة تغليظها بالعدد ، واللفظ ، ومنع من تغليظها بالمكان والزمان ، واستبدعه من الحكام احتجاجا برواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه " فأطلق ، كما أطلق بالبينة ، فوجب أن تحمل على إطلاقها من غير تغليظ بمكان وزمان كما حملت البينة على إطلاقها من غير تغليظ بمكان وزمان ولأن حجة المطلوب ، والبينة حجة الطالب . فلو جاز التغليظ في حجة أحدهما لجاز في حجتهما ، لوجوب التسوية بينهما . وفي سقوطها من حجة الطالب دليل على سقوطها من حجة المطلوب ، ولأنه لو جاز تغليظهما في بعض الحقوق لجاز تغليظهما في جميع الحقوق ، لأن ما استحق في الكثير كان مستحقا في القليل ، كالبينة واليمين ، فلما لم يعتبر التغليظ في القليل لم يعتبر في الكثير .

ودليلنا : ما رواه صفوان بن سليم ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف عند منبري - وروي : على منبري - بيمين آثمة ، تبوأ مقعده من النار ولو على قضيب من أراك .

فدل على أن تغليظ اليمين بالمنبر مشروع ، والحالف عنده مزجور ، ولأن عمل الصحابة به شائع ، وإجماعهم عليه منعقد .

روى المهاجر بن أبي أمية ، قال : كتب إلي أبو بكر الصديق : أن أبعث إليه بقيس بن المكشوح في وثاق ، فبعثت به ، فأحلفه في قتل على المنبر خمسين يمينا .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توجهت عليه اليمين في خصومة كانت بينه وبين أبي بن كعب في أرض ، فحلف على المنبر ، ثم وهب له الأرض بعد يمينه . وأحلف عمر أهل القسامة في الحجر .

وروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه توجهت عليه اليمين ، وهو على المنبر في أربعين ألف درهم ، فاتقاها ، ودفع المال ، وقال : أخاف أن يوافق قدر بلاء ، فيقال : بيمينه .

وروي أن ابن أبي مطيع ، وزيد بن ثابت اختصما إلى مروان بن الحكم ، وكان واليا على المدينة ، فتوجهت اليمين على زيد ، فأمره مروان أن يحلف على المنبر ، فجعل زيد يمتنع ، ويحلف بالله أن حقه لحق ، فقال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، فامتنع ، وجعل مروان يعجب من ذلك " .

[ ص: 109 ] قال مالك : أكره حبس اليمين .

وروى ابن أبي مليكة قال : كتب إلي ابن عباس في جاريتين ضربت إحداهما الأخرى ، فكتب إلي أن أحبسهما بعد العصر ، ثم أقرأ عليهما : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا [ آل عمران : 77 ] . ففعلت ، فاعترفت .

وروي أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوما يحلفون بين البيت والمقام ، فقال : أعلى دم ؟ قالوا : لا ، قال : أفعلى عظيم من المال ؟ قالوا : لا . قال : لقد خشيت أن يهزأ الناس بهذا المقام .

فدل على أنهم يحلفون فيه على الدم ، وعلى عظيم من المال ، فهذا ما اتفق عليه من ذكرنا من الصحابة قولا وعملا ، وليس يعرف لهم فيه مخالف ، فثبت أنه إجماع ، فإن قيل : امتناع زيد من اليمين على المنبر دليل على خلافه ، وارتفاع الإجماع ، قيل : لم يمتنع إلا للتوقي دون الخلاف ، ولو لم يره جائزا لأنكره على مروان ، فقد كان ينكر عليه كثيرا من أفعاله ، فيطيعه مروان ، حتى قال له ذات يوم بمشهد الملأ : إنك أحللت الربا ، فقال مروان : معاذ الله ، فقال زيد : إن الناس يتبايعون الأملاك بالصكوك قبل أن يقبضوا ، فوجه مروان مسرعا ، فمنعهم من ذلك طاعة لزيد .

وقد قال أهل التأويل في قول الله تعالى تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله : إنها بعد صلاة العصر في أيمان من نزلت فيه الآية من تميم الداري ، وعدي بن زيد .

أو لأن الأيمان موضوعة للزجر ، والزمان والمكان أزجر ، كان باستعماله في الأيمان أجدر ، ولأنه لما جاز تغليظها بالعدد واللفظ ، جاز بالزمان والمكان .

فأما الجواب عن خبر ابن عباس ، فهو أن المقصود به وجوب اليمين دون صفتها ، وأما الجواب عن اعتبارهم بالبينة فمن وجهين :

أحدهما : أن البينة لا تشهد بحق لها ، فارتفعت التهمة عنها ، فاستغنت عن الزجر ، والحالف يثبت حقا لنفسه .

والثاني : أن زجر البينة يفضي إلى توقفها عن ما لزمها من أداء الشهادة ، وذلك معصية يخالف بها حكم الحالف .

وأما الجواب عن جمعهم بين القليل والكثير فمن وجهين :

أحدهما : أن القليل يكتفى في الزجر عنه باليمين ، والكثير لا يكتفى فيه باليمين حتى يقترن بها ما يزجر عن الكثير .

[ ص: 110 ] والثاني : أن الشرع لما فرق بين قليل المال وكثيره في وجوب الزكاة ، وقطع السرقة لم يمنع من الفرق بينهما في التغليظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية