الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وإن أحلف ، قال : والله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، ثم ينسق اليمين .

[ ص: 127 ] قال الماوردي : وهذا هو الأولى في صفة اليمين ، لأنها موضوعة للزجر ، فعدل بها عن معهود الأيمان ، فيما يكثرونه في كلامهم من لغو اليمين ، لأنه أبلغ في الزجر عنها ، وأمنع من الإقدام عليها .

وأولى الأيمان الزاجرة - ما ذكره الشافعي ، أن يقول : والله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، وقال في الأم : الذي يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، وهما سواء في المعنى ، وإنما كان ذلك أولى ، لأن نسقها إلى الرحمن الرحيم قد تضمنها القرآن ، وقوله : " الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " ، تنبيها للحالف على علم الله بصدقه ، وكذبه ، فإن ذلك في إحلافه مما يفعله كثير من الحكام : بالله الطالب الغالب ، الضار النافع المدرك ، المهلك ، جاز ، وإن لم يكن في نسق تلاوتها في القرآن لما فيه من تنبيه الحالف على استدفاع مضاره ، واجتلاب منافعه ، ومن زجر الحالف - أن يعظه الحاكم قبل إحلافه بقول الله تعالى :إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا [ آل عمران : 77 ] . وبقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف يمينا كاذبة ، ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله ، وهو عليه غضبان " .

وحكي أن رجلا قدم إلى الحاكم ، فهم باليمين ، فلما وعظه بهذا امتنع وأقر ، وقال : ما ظننت أن الحالف يستحق هذا الوعيد .

فإن اقتصر على إحلافه بالله أو بصفة من صفة ذاته ، كقوله : وعزة الله ، وعظمة الله ، جاز .

قد اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحلاف ركانة على أن أحلفه بالله ، لأنه من أعظم أسمائه ، وقيل : هو اسمه الأعظم ، وقيل : في تأويل قوله تعالى : هل تعلم له سميا [ مريم : 165 ] . أي : من يتسمى بالله ، لأنه لم يتسم به أحد من المخلوقين ، وإن تسموا بغيره من أسمائه .

وشذ بعض أصحابنا ، فقال : لا يجزئه إحلافه بالله ، حتى يغلظها بما وصفنا ، ليخرج بها عن عادته ، ويعيدها الحاكم عليه مغلظة .

فأما إحلافه بالمصحف ، وما فيه من القرآن ، فقد حكى الشافعي ، عن مطرف ، أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف ، قال : ورأيت مطرفا بضعا يحلف على المصحف .

[ ص: 128 ] قال الشافعي : وهو حسن ، وعليه الحكام باليمن ، وهذا إنما استحسنه فيما تغلظ فيه اليمين بالمكان والزمان .

فأما إحلافه بالملائكة والرسل وما يعظم من المخلوقات فلا يجوز : لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول : وذمة الخطاب ، فضرب كتفي وقال : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم . فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت أو فليصمت .

قال عمر : فما حلفت بعدها ذاكرا ولا آثرا ، وفيه تأويلان :

أحدهما : عاهدا ولا ناسيا .

والثاني : قائلا ولا حاكيا .

فإن أحلفه الحاكم بشيء من المخلوقات ، فقد أساء وأثم . ولا يتعلق بها حكم اليمين ، ولا يجوز أن يحلف أحدا بطلاق ولا عتق ولا نذر ، لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة والتزام غرم ، وهو مستبدع ، وقد قال الشاعر :


رأيت كليبا أحدثت في قضائها طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرا

قال الشافعي : ومتى بلغ الإمام أن حاكما يستحلف الناس بالطلاق والعتاق عزله عن الحكم لأنه جاهل . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية