الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 132 ] باب الامتناع من اليمين

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كانت الدعوى غير دم في مال ، أحلف المدعى عليه ، فإن حلف برئ ، وإن نكل قيل للمدعي احلف واستحق ، فإن أبيت سألناك عن إبائك ، فإن كان لتأتي ببينة أو لتنظر في حسابك تركناك ، وإن قلت لا أؤخر ذلك لشيء غير أنى لا أحلف ، أبطلنا أن تحلف " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، وإنما شرط أن تكون الدعوى في غير دم ، لأن دعوى الدم مخالفة لدعوى المال من وجهين :

أحدهما : أنه يبدأ بيمين المدعي مع اللوث .

والثاني : أن يحلف في الدم خمسين يمينا .

وهذان الوجهان ممتنعان في دعوى الأموال .

فإذا كانت الدعوى في مال ، وأنكره المدعى عليه .

قيل للمدعي : ألك بينة ؟ فإن أقامها حكم له بها ، ولم يحلف المدعى عليه معها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي لما تحاكم إليه مع الكندي : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : لك يمينه ليس لك منه إلا ذاك . فقدم البينة على اليمين ، ولأن البينة حجة خارجة عن المحتج بها ، فانتفت التهمة عنها ، واليمين صادرة عن المحتج بها فتوجهت التهمة إليها ، وما عدمت التهمة فيه أقوى مما توجهت إليه .

وتقديم الأقوى على الأضعف أولى من تقديم الأضعف على الأقوى : ولأن البينة قول اثنين ، واليمين قول واحد ، وقول الاثنين أولى من قول الواحد .

فإن لم يقم المدعي البينة ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، لأنه قد صار مع عدم البينة أقوى من المدعي ، لأن الدعوى إن كانت في دين يتعلق بذمته ، فالأصل براءة ذمته .

وإن كانت في عين بيده دلت اليد في الظاهر على ملكه ، وقيل للمدعي : قد وجبت لك عليه اليمين ، فأنت في استقضائها عليه مخير ، فإن أعفاه أمسك عن [ ص: 133 ] المطالبة ، وإن طالب بها قيل للمدعى عليه : أتحلف ؟ فإن حلف سقطت الدعوى وإن نكل لم يسأل عن سبب النكول إلا أن يبتدئ ، فيقول : أنا متوقف عن اليمين ، لأنظر في حسابي ، وأستثبت حقيقة أمري ، فينظر ما قل من الزمان ، ولا يبلغ إنظاره ثلاثة أيام .

وإن لم يبتدئ بذكر السبب الموجب لتوقفه حكم بنكوله ، ولم يقض عليه بالدعوى حتى يحلف المدعي على استحقاقها .

وحكم عليه أبو حنيفة بالحق إذا نكل . والكلام معه يأتي .

قال الشافعي : لأن نكول المدعى عليه عن اليمين ليس بإقرار منه بالحق ، ولا بحجة للمدعي ، فلا أقضي عليه ، فإن بذل اليمين ، بعد نكوله لم تقبل منه ، لسقوط حقه منها بالنكول . وسواء كان بعد رد اليمين على المدعي أو قبله .

فإذا حلف المدعي صار بيمينه مع نكول المدعى عليه أقوى منه ، فقضى بحقه عليه ، واختلف هل تكون يمينه مع النكول قائمة مقام الإقرار أو مقام البينة على قولين فذكرهما من بعد . وإن توقف المدعي عن اليمين لم يحكم بنكوله حتى يسأل عن سبب توقفه ، فإن ذكر أنه متوقف عن اليمين ، ليرجع إلى حسابه ، ويستظهر لنفسه - أنظر بها ، وكان على حقه من اليمين ، ولم تضيق عليه المدة .

ولو تركها تارك بخلاف المدعى عليه إذا استنظر ، لأن يمين المدعي حق له ، ويمين المدعى عليه حق عليه .

فإن لم يذكر المدعي في توقفه عن اليمين عذرا إلا أنه لا يختار أن يحلف ، حكم بنكوله ، وسقوط دعواه .

فإن دعا إلى اليمين بعد نكوله عنها لم يستحلف بعد الحكم بنكوله ، وقيل : لك أن تستأنف الدعوى ، فتصير كالمبتدئ بها . ويكون للمدعى عليه أن يحلف إذا أنكرها : لأنها غير الدعوى التي حكم بنكوله فيها ، فإن حلف برئ وسقطت الدعوى ، وإن نكل ردت على المدعي ، فإذا حلف حكم له بالدعوى .

فإن قيل : فلم سألتم المدعي عن سبب نكوله ، ولم تسألوا المدعى عليه عن سبب نكوله ؟ قيل : لأن نكول المدعى عليه قد أوجب حقا للمدعي في رد اليمين عليه ، فلم يجز أن يتعرض الحاكم لإسقاطه بسؤال المدعى عليه ، ويمين المدعي مقصورة على حق نفسه ، لا يتعلق بها حق لغيره ، فجاز أن يسأل عن سبب امتناعه منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية