الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من شروط العدالة وأنها فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، ولزوم المروءة ، على التفصيل الذي ذكرنا .

فقد قال الشافعي : " ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة والمروءة . حتى لا يخلطهما بمعصية ، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة " .

وهذا صحيح لأن في غرائز أنفسهم دواعي الطاعات ودواعي المعاصي فلم يتمحض وجود أحدهما مع اجتماع سببهما وقد قال الشاعر :


من لك بالمحض وليس محض يحيق بعض ويطيب بعض



[ ص: 155 ] ولأن أفضل الناس الأنبياء وقد قال الله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] .

وقال تعالى وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه [ ص : 24 ] . وقال : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه [ يوسف : 24 ] . وقال تعالى في يونس : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ الأنبياء : 87 ] .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما منا معاشر الأنبياء إلا من عصى الله أو هم بمعصية إلا أخي يحيى بن زكريا " .

وقيل : إنه اختبر يحيى في كوز ماء رآه مملوءا وفرغ وهو لا يعلم .

وقيل له : ما في الكوز ، فقال : كان فيه ماء . ولم يقل فيه ماء فيكون كذبا فتحفظ حتى سلم .

ولأن أعصى خلق الله إبليس ، وقد كانت منه طاعة في قوله تعالى : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 82 ، 83 ] .

وإذا لم يسلم أحد من الطاعة والمعصية ، لم يجز أن تكون العدالة مقصورة على خلوص الطاعات . ولا الفسق مقصورا على خلوص المعاصي . لامتناع خلوص كل واحد منهما . ولا اعتبار بالممتنع فوجب أن يعتبر الأغلب من أحوال الإنسان .

فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة . حكم بعدالته وقبول شهادته ، وإن عصى ببعض الصغائر ، وإن كان الأغلب عليه المعصية وترك المروءة ، حكم بفسقه ورد شهادته وإن أطاع في بعض أحواله .

قال الله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ المؤمنون : 102 ، 103 ] .

وقال الله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 92 ] .

فغلب حكم الأغلب كما غلب في الإباحة والحظر حكم الأغلب وفي استعمال الماء إذا اختلط بمائع .

وفي نكاح النساء إذا اختلطت بأخت إن كانت في عدد محصور ، حرمن عليه حتى تتعين له من ليست بأخت فتحل ، وإن كانت في جم غفير حللن له حتى تتعين له من هي أخت فتحرم .

[ ص: 156 ] فوجب أن يكون حكم الأغلب أصلا معتبرا في العدالة والفسق .

التالي السابق


الخدمات العلمية