الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
القول في شهادة شارب الخمر :

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ومن شرب عصير العنب الذي عتق حتى سكر ، وهو يعرفها خمرا ، ردت شهادته ، لأن تحريمها نص " .

قال الماوردي : وأما الخمر ، فهو عصير العنب إذا أسكر ولم تمسه نار ، ولم يخالطه ماء ، ولا يكون خمرا إن مسته نار أو خالطه ماء .

وشربه محرم بنص القرآن ، وهو قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] .

فدلت الآية على تحريمه من وجهين :

أحدهما : قوله رجس من عمل الشيطان والرجس المضاف إلى الشيطان يكون رجسا بإضافته إلى الشيطان تغليظا .

وفي الرجس أربعة تأويلات :

أحدها : سخط .

والثاني : شر .

والثالث : إثم .

والرابع : حرام .

وقوله من عمل الشيطان أي : مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به .

والثاني : قوله فاجتنبوه ، وما ورد الأمر باجتنابه حرم الإقدام عليه وفيما أراد بقوله " فاجتنبوه " تأويلان محتملان :

أحدهما : الرجس أن تفعلوه .

والثاني : الشيطان أن تطيعوه .

وقال الله تعالى : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق [ الأعراف : 33 ] . فيه تأويلان :

[ ص: 183 ] أحدهما : أنها الزنى خاصة ، وما ظهر منها المناكح الفاسدة ، وما بطن السفاح الصريح .

والثاني : أن الفواحش : جميع المعاصي ، ما ظهر منها : أفعال الجوارح ، وما بطن : اعتقاد القلوب .

وفي الإثم والبغي تأويلان :

أحدهما : أن " الإثم " الخيانة في الأمور ، والبغي التعدي على النفوس .

والثاني : وهو أشهر : أن الإثم الخمر ، والبغي السكر ، وشاهده قول الشاعر :


شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول



واختلف بأي هاتين الآيتين حرمت الخمر .

فالذي عليه الجمهور أنها حرمت بالآية الأولى للتصريح باسم الخمر .

وقال قوم : بل حرمت بالآية الثانية ، لأنها آخر آية نزلت فيه .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " شارب الخمر كعابد وثن " فجعله مقرونا بالشرك لتغليظ تحريمه . فإن شرب الخمر مستحلا كفر به .

وإن قيل : فقد استباح قدامة بن مظعون شرب الخمر بقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا [ المائدة : 193 ] .

وقد قال : قد أيقنا وآمنا ، فلا جناح علينا فيما شربنا ، فلم ينكره أحد من الصحابة قيل : قد أنكروا عليه ما تأوله وأبطلوه ، فرجع عنه ، وانعقد الإجماع على فساد شبهته ، وصار من المحرمات بالنصوص المقطوع بها .

وإن شرب الخمر غير مستحل لها ، كان فاسقا مردود الشهادة ، قليلا شرب منها أو كثيرا ، سكر منها أو لم يسكر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمرة لعينها والسكر من كل شراب " في رواية العراقيين " والمسكر من كل شراب : في رواية الحجازيين .

ولا فرق بين أن يشربها صرفا أو ممزوجة .

[ ص: 184 ] وشذ قوم بأن قالوا : إذا مزجها بما غلب عليها ، لم تحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمرة لعينها " .

وهذا تأويل فاسد ، لأن العين موجودة في الممزوج بها ، لكن لو مزجت بالماء قبل أن تشتد ثم صارت بعد المزج مسكرا ، كانت في حكم النبيذ دون الخمر ، وكذلك لو غليت بالنار بعد إسكارها كانت خمرا ، لو غليت بالنار قبل إسكارها ثم أسكرت بعد غليها ، كانت نبيذا ولم تكن خمرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية