الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
القول في شهادة أهل الغناء :

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن كان يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا ، فهذا سفه ترد به شهادته ، وإن كان ذلك يقل لم ترد " .

قال الماوردي : والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :

أحدهما : في الغناء .

والثاني : في أصوات الملاهي .

وأما الغناء : فمن الصوت ممدود ، ومن المال مقصور ، كالهواء وهو من الجو ممدود ، ومن هوى النفس مقصور .

كتب إلي أخي من البصرة وقد اشتد شوقه للقائي ببغداد شعرا قال فيه :


طيب الهواء ببغداد يشوقني قدما إليها وإن عاقت مقادير     فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت
طيب الهواءين ممدود ومقصور

اختلف أهل العلم في إباحة الغناء وحظره ، فأباحه أكثر أهل الحجاز وحظره أكثر أهل العراق .

وكرهه الشافعي وأبو حنيفة ومالك في أصح ما نقل عنهم ، فلم يبيحوه على الإطلاق ولم يحظروه على الإطلاق ، فتوسطوا فيه بالكراهة بين الحظر والإباحة .

واستدل من أباحه ، بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه مر بجارية لحسان بن ثابت تغني وهي تقول :


هل علي ويحكما     إن لهوت من حرج

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حرج إن شاء الله
"

[ ص: 189 ] وروى الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كانت عندي جاريتان تغنيان ، فدخل أبو بكر ، فقال : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعهما فإنها أيام عيد " .

وقال عمر رضي الله عنه : " الغناء زاد المسافر " .

وكان لعثمان جاريتان تغنيان في الليل ، فإذا جاء وقت السحر قال : أمسكا فهذا وقت الاستغفار ، وقام إلى صلاته .

ولأنه لم يزل أهل الحجاز يترخصون فيه ويكثرون منه ، وهم في عصر الصحابة وجلة الفقهاء ، فلا ينكرونه عليهم ولا يمنعونهم منه إلا في إحدى حالتين :

إما في الانقطاع إليه ، أو الإكثار منه ، كالذي حكي أن عبد الله بن جعفر كان منقطعا إليه ، ومكثرا منه ، حتى بدد فيه أمواله ، فبلغ ذلك معاوية ، فقال لعمرو بن العاص : قم بنا إليه ، فقد غلب هواه على شرفه ومروءته ، فلما استأذنا عليه وعنده جواريه ، يغنين فأمرهن بالسكوت ، وأذن لهما في الدخول ، فلما استقر بهما الجلوس ، قال معاوية : يا عبد الله ، مرهن يرجعن إلى ما كن عليه ، فرجعن يغنين ، فطرب معاوية حتى حرك رجليه على السرير ، فقال عمرو : إن من جئت تلحاه أحسن حالا منك ، فقال معاوية : إليك عني يا عمرو ، فإن الكريم طروب .

وأما أن يكون في الغناء ما يكره كالذي روي عن سفيان بن عيينة ، وقد عاد ابن جامع إلى مكة بأموال جمة حملها من العراق ، فقال لأصحابه : علام لعطاء ابن جامع هذه الأموال ؟ فقالوا : على الغناء ، قال : " ابن جامع ماذا يقول فيه " ؟ قالوا : يقول :


أطـوف بالبيـت في مـن يطـوف     وأرفـع مـن مـئـزري المسبــل

قال : هي السنة ، ثم ماذا يقول ؟ قالوا :


وأسجـد بالليـل حتى الصباح     وأتلـو من المحكـم المنزل

قال : أحسن وأصلح ، ثم ماذا ؟ قالوا :


عسـى فـارج الهـم عن يوسـف     يسخـر لـي ربة المحمــل

قال : أفسد الخبيث ما أصلح لا سخر الله له .

[ ص: 190 ] واستدل من حظره بقوله تعالى : والذين لا يشهدون الزور [ الفرقان : 72 ] .

وفيه أربعة تأويلات : -

أحدها : الغناء . قاله مجاهد .

والثاني : أعياد أهل الذمة ، قاله ابن سيرين .

والثالث : الكذب ، قاله ابن جريج .

والرابع : الشرك ، قاله الضحاك رحمه الله .

وقال تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ الفرقان : 72 ] . وفيه ثلاث تأويلات :

أحدها : إذا ذكروا الفروج والنكاح كنوا عنها .

والثاني : إذا مروا بالمعاصي أنكروها ، قاله الحسن .

والثالث : إذا مروا بأهل المشركين أنكروه ، قاله عبد الرحمن بن زيد .

وقاله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] الآية . وفي " لهو " أربعة تأويلات :

أحدها : أنه الغناء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

والثاني : أنه شراء المغنيات .

وروى القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهن ، ولا التجارات فيهن ، وأثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث " .

والثالث : أنه شراء الطبل والمزمار ، قاله عبد الكريم .

والرابع : أنه ما ألهى عن الله تعالى ، قاله الحسن .

وفي قوله تعالى : ليضل عن سبيل الله [ لقمان : 6 ] . تأويلان :

أحدهما : ليمنع من قراءة القرآن ، قاله ابن عباس .

والثاني : ليصد عن سبيل الله . حكاه الطبري .

وفي قوله " بغير علم " : تأويلان .

[ ص: 191 ] أحدهما : بغير حجة .

والثاني : بغير رواية .

وفي قوله تعالى : ويتخذها هزوا [ لقمان : 16 ] . تأويلان :

أحدهما : تكذيبا .

والثاني : استهزاء بها .

ومن السنة ما رواه ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل " .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الغناء نهيق الشيطان " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " أنهاكم عن صوتين فاجرين : الغناء ، والنياحة " .

وقال بعض السلف : الغناء رقية الزنى .

وإذا تقابل بما ذكرنا ، دلائل الحظر والإباحة ، يخرج منها حكم الكراهة . فلم يحكم بإباحته ، لما قابله من دلائل الحظر والإباحة ، ولم نحكم بحظره لما قابله من دلائل الإباحة ، " فصار يتردده بينهما مكروها غير مباح ولا محظور .

وروي أن رجلا سأل ابن عباس عن الغناء : أحلال هو ؟ قال : لا ، قال : أحرام هو ؟ قال : لا ، يريد أنه مكروه لتوسطه بين الحلال والحرام . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية