الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 219 ] باب الشهادة على الشهادة

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وتجوز الشهادة على الشهادة بكتاب القاضي في كل حق للآدميين مالا أو حدا أو قصاصا ، وفي كل حد لله قولان ، أحدهما : أنه تجوز ، والآخر : لا تجوز من قبل درء الحدود بالشبهات " .

قال الماوردي : أما الشهادة على الشهادة ، فجائزة مع الاتفاق على جوازها لأمرين :

أحدهما : أن الشهادة وثيقة مستدامة ، وقد يطرأ على الشاهد من احتدام المنية والعجز عن الشهادة لغيبة أو مرض ما تدعو الضرورة فيه إلى الإرشاد على شهادته ، ليستديم بها الوثيقة ، ولا يقوى به الحق .

والثاني : أن الشهادة خبر وإن لم يكن كل خبر شهادة ، فلما جاز نقل الخبر لاستدامة العلم به ، جاز نقل الشهادة لاستدامة التوثيق بها . فإذا ثبت جوازها ، فالكلام فيها يشتمل على أربعة فصول :

أحدهما : في وجوب الشهادة على الشهادة .

وهو معتبر بحال شاهد الأصل إذا دعاه صاحب الحق أن يشهد على شهادته ، وله حالتان :

أحدهما : أن يجيب إليها ، فيكون بالإجابة محسنا ، سواء قدر على الأداء أو عجز

والحال الثانية : أن يمتنع عنها ، فله حالتان :

إحداهما : أن يكون قادرا على أدائها عند الحاكم ، فلا تلزمه الشهادة على شهادته ، لأن تحمل الشهادة موجب لأدائها عند الحاكم ، وليس بموجب الإشهاد عليها ، فلم تلزمه غير المقصود بتحملها .

والحال الثالثة : أن يعجز عن أدائها عند الحاكم إما لمرض أو زمانة ، أو لسفر ونقلة ، فقد اختلف في وجوب الإشهاد على شهادته .

[ ص: 220 ] فذهب بعض فقهاء العراق إلى وجوب إشهاده على شهادته ، كما يجب عليه أداؤها عند الحكام ، لما فيه من حفظ الحق على صاحبه في الحالين .

ومذهب الشافعي ، يجب عليه أداء شهادته ولا يجب عليه الإشهاد على شهادته لثلاث معان :

أحدها : أن المقصود بتحمل الشهادة أداؤها دون الإشهاد عليها ، فلم يلزمه في التحمل غير المقصود به .

والثاني : الإشهاد عليها لا يسقط فرض أدائها فلم يلزمه بالتحمل فرضان .

والثالث : أن المقر لما لم يلزمه الإشهاد على إقراره لم يلزم الشاهد الإشهاد على شهادته .

والذي أراه أولى المذهبين عندي ، أن يعتبر الحق المشهود فيه ، فإن كان مما ينتقل إلى الأعيان كالوقف المؤبد الذي ينتقل إلى بطن بعد بطن ، لزمه الإشهاد على شهادته ، لأن البطن الموجود يصل إلى حقه بالأداء ، فلم يلزمه غيره ، والبطن المفقود قد لا يصل إلى حقه إلا بالإشهاد على شهادته ، فلزمه الإشهاد عليها في حقه .

وكذلك الإجارة المعقودة إلى مدة قد لا يعيش الشهود إلى انقضائها في الأغلب ، فهي بمثابة المنتقل في وجوب الإشهاد على شهادته .

وكذلك الديون المؤجلة بالأجل البعيد .

فأما في الحقوق المعجلة ، أو في البياعات المقبوضة الناجزة ، فلا يلزمه فيها غير الأداء عند التنازع ، لأن التوثيق بها غير مستدام وأما إذا ابتدأ الشاهد بالإشهاد على شهادته من غير طلب جاز ، وكان بها متطوعا ، لأنها استظهار في التوثيق لصاحب الحق ، كالمتحمل للخبر إذا ابتدأ بروايته من غير طلب جاز وكان بها متطوعا .

ولا يسقط عن الشاهد فرض الأداء بهذا الإشهاد إذا أحدث التنازع مع إمكان الشهادة ، فإن انقطع التنازع ، سقط عنه فرض الأداء والإشهاد معا .

التالي السابق


الخدمات العلمية