الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ القول في العدد في شهود الفرع ] .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو شهد رجلان على شهادة رجلين ، فقد رأيت كثيرا من الحكام والمفتين يجيزونه ، ( قال المزني : ) وخرجه على قولين ، وقطع في موضع آخر بأنه لا تجوز شهادتهما إلا على واحد ممن شهدا عليه ، وآمره بطلب شاهدين على الشاهد الآخر ، ( قال المزني ) رحمه الله : ومن قطع بشيء كان أولى به من حكايته له " .

قال الماوردي : وأصل هذه المسألة أن العدد معتبر في شهود الفرع لاعتباره في شهود الأصل ، لأن الشهادة لا تخلو من اعتبار العدد فيها ، أصلا كانت أو فرعا ، فإذا كانت شهادة الأصل معتبرة بشاهدين ، فلشهادة الفرع ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يشهد في الفرع شاهدان على شهادة أحد شاهدي الأصل ، ويشهد آخران على الشاهد الآخر ، فيصير شهود الفرع أربعة يتحمل عن كل واحد من الاثنين اثنان ، فهذا متفق على جوازه وهو أولى ما استعمل فيه .

والحال الثانية : أن يشهد في الفرع واحد على شهادة أحدهما أو يشهد آخر على شهادة الآخر ، فهذا غير مجزي لا يختلف فيه مذهبنا ، وهو قول جمهور الفقهاء .

وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق جوازه ، استدلالا بأن أصل الحق لما ثبت بشاهدين ، جاز أن ينوب عن كل واحد واحد ، فتصير نيابتهما بشاهدين .

وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه مفض إلى أن يصير العدد معتبرا في الأصل دون الفرع ، وحكم الفرع أغلظ من حكم الأصل .

والثاني : أن شهادة الفرع موجبة لثبوت شهادة الأصل ، ولا تثبت بالواحد شهادة الواحد .

والحال الثالثة : أن يشهد في الفرع شاهدان على أحد شاهدي الأصل ثم يشهدان معا على الشاهد الآخر ، فيتحمل شاهد الفرع عن كل واحد من شاهدي الأصل ففيه قولان :

[ ص: 232 ] أحدهما : يجوز ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأكثر فقهاء الحجاز والعراق .

والقول الثاني : لا يجوز ، وهذا اختيار المزني .

وهذان القولان محمولان على أصل ، وهو أن ثبوت الحق ، هل يكون بشهود الأصل أو بشهود الفرع ؟ وفيه قولان :

أحدهما : أنه يثبت بشهود الأصل ، ويتحمله عنهم شهود الفرع ، لأنه يعتبر شرط الشهادة إذا كان مما يعاين في شهود الأصل دون شهود الفرع ويتحمله عنهم شهود الفرع ، فعلى هذا يصح أن يشهد شاهدا الفرع عن كل واحد من شهود الأصل .

والقول الثاني : أن الحق يثبت بشهود الفرع ، وهم يتحملون الشهادة عن شهود الأصل ، لجواز شهادتهم بعد موت شهود الأصل ، فعلى هذا إذا تحمل شاهدا الفرع عن أحد شاهدي الأصل ، لم يكن لهما أن يتحملا عن الشاهد الآخر .

ووهم أبو حامد الإسفراييني ، فعكسه ، وجعل ثبوت الحق بشهود الأصل مانعا من أن يشهد شاهد الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل ، وجعل ثبوته بشهود الأصل ، تجوز أن يشهد كل واحد من شاهدي الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل .

وهذا عكس الصواب ، لأن الحق إذا ثبت بشهود الأصل ، فهو تحمل بحق كل واحد ، ويجوز ثبوته بشاهدين ، فإذا بشهود الفرع فهو تحمل للشهادة بشاهدين ، فلم يجز أن يتحملاها عنهما ، لأنهما يصيران فيها كأحد الشاهدين ، وهذا دليل على الوهم ، وفرق ما بينهما في الحكم .

ثم الدليل على توجيه القولين في غير المسألة ، أنه إن قيل : يجوز لشاهدي الفرع أن يشهدا عن كل واحد من شاهدي الأصل فدليله من وجهين :

أحدهما : أنها شهادة على شخصين فجاز أن يجتمعا عليها في حق واحد ، كما جاز أن يجتمعا عليها في حقين .

والثاني : أن اجتماعهما عليها في الحق الواحد أوكد من اجتماعهما عليها في حقين ؟ لأنه في الحق الواحد موافق وفي الحقين غير موافق .

وإن قيل : إنه لا يجوز لشاهدي الفرع إذا شهدا على أحد الشاهدين أن يشهدا على الآخر حتى يشهد عليه غيرهما ، فدليله من وجهين :

أحدهما : أنهما قد قاما في التحمل عن أحدهما مقام شاهد واحد وذلك الحق ، فإذا شهدا فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهدا بذلك الحق مرتين ، ولا تتم الشهادة بهذا كذلك بالشاهدين .

[ ص: 233 ] والثاني : أنه لما لم يقبل من شاهد الأصل حتى يشهد معه غيره ، لم يقبل من شاهدي الفرع حتى يشهد معهما غيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية