الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما القسم الأول : فيما اختص بالأبدان .

فهل قتل نفس أو قطع طرف بشهادتهم على رجل أنه قتل فقتل ، أو قطع فقطع ، ثم رجعوا على شهادتهم بعد أن قتل أو قطع ، فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمهم برجوعهم إذا عمدوا :

فمذهب الشافعي رضي الله عنه : أن عليهم القود ، وهو قول ابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق .

وقال أبو حنيفة : إن عليهم الدية دون القود .

وقال مالك : لا قود عليهم ولا دية ، واستدل أصحاب أبي حنيفة على سقوط القود بأن الشهادة سبب أفضى إلى القتل موجب أن يتعلق به الحكم الغرم دون القود ، كحفر البئر ووضع الحجر .

واستدل أصحاب مالك على سقوط الدية بأن الشهادة سبب اقترن به مباشرة الحاكم ، فلما سقطت الدية عن الحاكم بالمباشرة كان أولى أن تسقط عن الشهود بالسبب ، لأن السبب سقط بالمباشرة .

والدليل على وجوب القود : إجماع الصحابة في قضيتين مشهورتين عن إمامين منهم لم يختلف عليهما أحد منهم .

إحداهما : عن أبي بكر رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده بالقتل وقيل بالقطع فاقتص منه ، ثم رجع الشاهدان وقالا : أخطأنا الأول وهذا هو القاتل أو القاطع ، فقال : لو علمت أنكما تعمدتما لأقدتكما .

والقصة الثانية : " وهي أثبت " رواها الشافعي عن سفيان ، عن مطرف ، عن الشعبي ، أن رجلين شهدا عند علي ، عليه السلام ، على رجل أنه سرق ، فقطعه ، ثم أتياه بعد برجل آخر وقالا : أخطأنا في الأول ، وهذا هو السارق ، فأبطل شهادتهما على الآخر ثم ضمنهما دية [ ص: 257 ] الأول ، وقال : لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما .

وقال أحمد بن حنبل ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن علي ، عليه السلام غير مرفوع ، أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه بخبر مرفوع .

وقد رواه مع سفيان أسباط ، عن مطرف هذا وليس لهذين الإمامين مخالف في الصحابة ، فثبت بهما الإجماع .

ويدل عليه من الاعتبار ، أن كل إتلاف ضمن بالمباشرة ضمن بالشهادة كالأموال .

ولأن الشهادة إلجاء ، فوجب أن يضمن به النفوس بالقود كالإكراه .

فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن الشهادة سبب يسقط به القود ، كحفر البئر ، ففاسد بالإكراه ، ثم حفر البئر لم يقصد به القتل فسقط به القود ، والشهادة مقصود بها القتل .

وأما الجواب عن استدلال مالك بالحاكم ، فهو أن الحاكم لزمه الحكم بالشهادة فلم يضمن ، والشاهد متبرع بالشهادة فضمن بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية