الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإن أقام المدعي بينته ، وأقام صاحب اليد بينة ، سمعت بينته وقضى ببينته على بينة المدعي ، لفضل يده في جميع الأعيان سواء كان الملك مطلقا ، أو مذكورا

[ ص: 303 ] لسبب وسواء فيما ذكر سببه مما يتكرر كصناعة الأواني ، وما ينتج من الخز مرة بعد أخرى ، لو كان مما لا يتكرر سببه كالنتاج ، وثياب القطن ، والكتان ، وبه قال مالك من أهل المدينة وقال به من أهل العراق شريح ، والنخعي ، والحكم بن عيينة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن كان التنازع في ملك مطلق ، أو مما يتكرر سببه لم تسمع بينة صاحب اليد ، وقضي ببينة المدعي ، وإن كان مما لا يتكرر سمعت بينة صاحب اليد في الأحوال كلها ، وسموا المدعي خارجا ، وصاحب اليد داخلا ، فقال : تسمع بينة الخارج ، ولا تسمع بينة الداخل ، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " فأضاف البينة إلى جنبة المدعي وأضاف اليمين إلى جنبة المدعى عليه بحذف الألف واللام الموجب لاستغراق الجنس ، فاقتضى أن لا تنتقل البينة إلى المدعى عليه ، ولا تنتقل اليمين إلى المدعي .

ولأن اليمين موجبة للملك ، فلم يستفد صاحب اليد بالبينة ما لا يستفيد بيده وبينة المدعي يحكم بها مع يد المدعى عليه ، فوجب أن يحكم بها مع بينته ، لأن بينته لم تعد إلا ما أفادته يده ، ثم اليد أقوى من البينة ، لأن اليد تدل على الملك مشاهدة والبينة تدل على الملك استدلالا ، فافترقا ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل في الدين لم تسمع في العين لاستوائهما في حق الخارج في القبول ، فوجب أن يستويا في حق الداخل في الرد .

قالوا : ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل إذا لم يقم الخارج البينة مع قوة الداخل ، وضعف الخارج كان أولى أن لا تسمع بينة الداخل إذا أقام الخارج البينة مع ضعف الداخل ، وقوة الخارج لأن من لم تسمع بينته مع قوته ، كان أولى أن لا تسمع مع ضعفه .

ودليلنا رواية جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ، أو بعير ، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له بنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده فدل على قبول بينة الداخل ، فإن قيل فبينة الداخل في النتاج مقبولة .

قيل : وجه الدليل أنه قضى ببينة الداخل تعليلا باليد ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البينة على المدعي " وقد صار كل واحد منهما مدعيا للعين ، وإن لم يصر مدعيا للدين ، فوجب بهذا الخبر ، أن تسمع بينة كل واحد منهما .

ولأن جنبة الخارج ، أضعف من جنبة الداخل ، فلما سمعت لليد مع الضعف كان سماعها مع القوة أولى .

[ ص: 304 ] وتحريره قياسا ، أنها بينة تسمع مع ضعف الجنبة ، فكان أولى أن تسمع مع قوة الجنبة كسماعها من المدعي ، إذا كانت له يد متقدمة ولأنهما إذا تنازعا ملكا ، لا يد لواحد منهما ، سمعت بينة كل واحد منهما ، فإذا انفرد أحدهما باليد ، لم يمنع من سماع بينته ، لأنها إن لم تفده قوة لم تفده ضعفا .

وتحريره أن تساويهما في ادعاء الملك ، يوجب تساويهما في سماع البينة ، كما لو لم يكن لأحدهما عليه يد ، أو كان لكل واحد منهما يد عليه .

ولأن بينة الخارج قد رفعت يد الداخل ، فصار كالخارج ، فوجب أن تسمع بينته كسماعها من الخارج .

وتحريره قياسا أن كل من حكم عليه إذا عدم البينة ، وجب أن يحكم له إذا وجد البينة كالخارج ، ولأن اليد فعل زائد في القوة فلم يجز أن يمنع من سماع البينة .

كما لو شهد لأحدهما شاهدان ، وشهد للآخر عشرة .

ولأن كل حجة صح دفعها بالقدح فيها ، صح دفعها بالمعارضة لها كالخبرين وعمدة القياس على أبي حنيفة أنه لما سمعت بينة الداخل فيما لا يتكرر من النتاج ، وثوب القطن ، سمعت بينته في ما يتكرر من أواني الذهب والفضة ، وثوب الخز . وتحريره قياسا من وجهين :

أحدهما : أن كل من سمعت بينته فيما لا يتكرر من الأعيان سمعت بينته فيما يتكرر منها كالخارج .

والثاني : أن كل يمين صح سماع البينة عليها من الخارج ، صح سماع البينة عليها من الداخل ، كالنتاج ، والأعيان التي لا تتكرر ، فاعترض أصحاب أبي حنيفة على هذا بما اختلف فيه متقدموهم ، ومتأخروهم ، فأما المتقدمون منهم فعارضوا في الفرق بينهما بأن البينة في النتاج وما لا يتكرر سببه ، تفيد ما لا تفيده يده ، لأن اليد تدل على الملك دون السبب والبينة تدل على الملك والسبب فلذلك سمعت بينته مع يده والبينة في الملك المطلق ، لا تفيد إلا ما أفادته يده ، فلذلك لم تسمع بينته مع يده ، وعنه جوابان :

أحدهما أن عكس هذا بأن ما كان التعارض فيه ممكنا ، أولى بالقبول مما كان التعارض فيه كذبا .

والثاني : أنهما متكاذبتان في الملك ، وإن أمكن صدقها في السبب المتكرر فلئن جاز أن يكون التكاذب في السبب موجبا لتغليظ الصدق باليد جاز أن يكون التكاذب في الملك موجبا لتغليب الصدق باليد ، فلم ينقلوا في كل الفرقين من فساد موضوعها .

[ ص: 305 ] فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " فمن وجهين .

أحدهما : ما قدمناه في الاستدلال به عليهم ، بأنه قد صار كل واحد منهما مدعيا .

والثاني : أنه لا يمتنع أنه يحمل قوله : " البينة على المدعي " أنها تسمع من المدعى عليه على المدعي ، واليمين على المدعى عليه أنها تسمع على المدعي لأن قوله على مقتضى ظاهره ، أن يكون متوجها إلى من سمعت منه البينة ، وسمعت عليه اليمين ، فيكون الخبر محمولا على تأويلين مستعملين ، ثم أكثر ما فيه أن يكون عاما في جنس الأيمان والبينات ، والعموم يجوز تخصيص بعضه فيخص هذا بأدلتنا .

وأما الجواب عن قولهم أن اليد موجبة للملك ، فلم يستفد صاحبها بالبينة ، ما لم يستفده بيده فمن وجهين :

أحدهما : أن اليد تدل على الملك ، ولا توجبه ، لأن اليد قد تكون لغصب ، أو أمانة ، أو إجارة فلم توجب الملك دون غيره ، وإن كانت في الظاهر محمولة عليه مع اليمين ، والبينة موجبة للملك بغير يمين ، فصار مستفيدا بالبينة ، ما لا يستفيده بيده من وجهين :

أحدهما : أنها أوجبت الملك واليد لا توجبه .

والثاني : أنها أسقطت اليمين ، واليد لا تسقطها .

والجواب الثاني ما قدمناه أن بينة المدعي ، قد رفعت يده في الحكم ، فاستفاد بالبينة إقرار يده على الملك .

وأما الجواب عن قولهم ، إنه لما لم تسمع بينة المدعى عليه في الدين لم تسمع بينته في اليمين فمن وجهين :

أحدهما : ما قدمناه من أن البينة في الدين ، في جهة المدعي تكون على الإثبات ، ومن جهة المدعى عليه تكون على النفي ، والبينة ، تسمع على الإثبات ، ولا تسمع على النفي ، وهي على الأيمان موجبة للإثبات في الجهتين فسمعت منهما .

والجواب الثاني : أنها تسمع البينة في الدين من جهة المدعى عليه ، إذا شهدت بالقضاء ، فصارت مسموعة من الجهتين .

وأما الجواب عن قولهم إنه لما لم تسمع بينته ، مع عدم بينة الخارج ، كان أولى أن لا تسمع مع وجود بينة الخارج ، فهو أن لأصحابنا في سماعها وجهين ذكرناهما :

[ ص: 306 ] أحدهما : تسمع ويسقط الاستدلال .

والوجه الثاني : لا تسمع .

والفرق بينهما أنه لا تسمع بينته ، مع عدم بينة الخارج ، لأنه مستغن عنها بيمينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية