الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وإن كان لهما عند التحالف بينة فعلى ضربين :

أحدهما : أن تحضر البينة قبل التحالف ، فتسمع ويمنع حضورها من التحالف ، لأن البينة أولى من اليمين .

والضرب الثاني : أن تحضر البينة بعد التحالف ، فيكون سماعها محمولا على ما أوجبه التحالف من فسخ العقد .

فإن قيل : إنه قد انفسخ به العقد ظاهرا وباطنا لم تسمع البينة .

[ ص: 319 ] وإن قيل إنه قد انفسخ به العقد في الظاهر دون الباطن سمعت ، لأن تصادقهما أقوى من سماع البينة منهما ، وتصادقهما غير معمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر والباطن ، ومعمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر ، دون الباطن ، كذلك البينة ، فإذا سمعت البينة على ما ذكرنا لم يخل أن تكون لأحدهما أو لهما :

فإن كانت لأحدهما سمعت ، وحكم بها لمقيمها سواء شهدت للمكري ، أو للمكتري .

فإن أقام كل واحد منهما بينة شهدت له بما ادعى لم يخل حالهما من ثلاثة أضرب :

أحدها : أن تكون إحدى البينتين أسبق تاريخا من الأخرى ، فإن شهدت إحداهما بأنهما تعاقدا مع طلوع الشمس ، وشهدت الأخرى أنهما تعاقدا مع زوالها من ذلك اليوم ، فالعقد هو السابق منهما ، لأن الثاني بعد صحة الأول باطل .

والضرب الثاني : أن تشهد البينتان بالعقد في وقت واحد ، فقد اختلف قول الشافعي في تعارض البينتين في الأموال على ثلاثة أقاويل :

أحدها : إسقاط البينتين ، وبه قال مالك لأمرين :

أحدهما : لتكاذبهما في الشهادة ، فسقطت بالتكاذب .

والثاني : أن البينة ما بان بها الحكم ، فإذا لم يكن بها بيان ردت ، لأنه لا بيان فيها لأحدهما بعينه .

والقول الثاني : أنه يقرع بين البينتين ، ويحكم بمن قرع منهما ، وهو محكي عن علي ، وابن الزبير رضي الله عنهما لأمرين :

أحدهما : ما رواه سعيد بن المسيب ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وأقام كل واحد منهما شهودا ، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما " وقال اللهم أنت تقضي بينهما " .

والثاني : أن اشتباه الحقوق المتساوية ، يوجب تمييزها بالقرعة ، كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه ، وفي عتق عبيده ، إذا استوعبوا التركة .

والقول الثالث : أن يقسم الملك بينهما بالبينتين ، وهو محكي عن ابن عباس ، وبه قال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه لأمرين :

[ ص: 320 ] أحدهما : ما رواه سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن جده أبي موسى الأشعري ، أن رجلين تداعيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا ، أو دابة ، وشهد لكل واحد منهما شاهدان ، فجعله بينهما نصفين .

والثاني : أن البينة أقوى من اليد ، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما ، فوجب إذا تساويا في البينة ، أن يكون أولى ، بأن يجعل بينهما ، فهذه ثلاثة أقاويل اتفق أصحابنا على تخريجها في تعارض البينتين في الأموال ، واختلفوا في تخريج قول رابع وهو : وقفهما على البيان ، فخرجه البغداديون قولا رابعا للشافعي ، وامتنع البصريون من تخريجه قولا رابعا ، لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينة ، وإنما يوقف المال على البيان دون البينة ، وهذا أشبه ، فإذا تقررت هذه الأقاويل في تعارض البينتين لم يخرج في تعارضهما في عقد الإجارة إلا قولين :

أحدهما : إسقاطهما ويتحالف المتداعيان .

والقول الثاني : الإقراع بين البينتين ، والحكم بشهادة من قرع منهما .

وفي إحلاف من قرعت بينته قولان ، من اختلاف قولي الشافعي في القرعة هل دخلت ترجيحا للدعوى أو للبينة ؟ فأحد قوليه أنها دخلت ترجيحا للبينة ، فعلى هذا لا يمين على من قرعت بينته ، لأن الحكم بالبينة ولا يمين مع البينة .

والقول الثاني : أنها دخلت ترجيحا للدعوى ، فيجب إحلاف المدعي .

فعلى هذا يكون فيما ثبت به الحكم وجهان :

أحدهما : باليمين مع البينة ، وتكون يمينه بالله أنه ما شهدته بينته حق ، وقد نص عليه الشافعي .

والوجه الثاني : أن الحكم يثبت بيمينه ترجيحا بالبينة ، وتكون يمينه بالله ، لقد اكتريت منه الدار بكذا .

ولا يجيء فيه تخريج القول الثالث ، أنه يقسم بينهما بالبينتين ، لأن قسمة العقد لا تصح ، ولا يجيء فيه تخريج القول الرابع إن صح تخريجه ، أنه يكون موقوفا على البيان لتعذره في الدعوى والبينة ، فوجب أن يفصل الحكم بينهما بالتحالف .

والضرب الثالث : أن تكون البينتان مطلقتين ليس فيهما تاريخ يدل على اجتماعهما أو تقدم إحداهما ، فقد حكي عن أبي العباس بن سريج ، أنه يحكم بأزيد البينتين ، فإن كان الاختلاف في الأجرة حكم بأكثرهما قدرا .

وإن كان في الكراء حكم بأكثرهما قدرا .

[ ص: 321 ] كما لو شهدت بينة بألف ، وبينة بألفين ، حكم بالألفين ، والذي نص عليه الشافعي : أن البينتين متعارضتان تتساوى فيها الزيادة والنقصان ، لأن عقد الكراء بعشرة يمنع من عقده بعشرين ، وكراء البيت بعشرة يمنع من كراء الدار بعشرين ، فيكون تعارضهما محمولا على القولين ، يسقطان من أحدهما ويقرع بينهما في الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية