الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما المزني فإن كلامه يشتمل على ثلاثة فصول :

[ ص: 335 ] أحدها : بيان ما هو الأصح على مذهب الشافعي في تعارض البينتين ، وأن الذي يقتضيه كلامه إسقاطهما ، والعمل بما يوجبه مجرد الدعوى واليد ، لأنه قد أبطل القسمة بقوله ، أن استعمالهما في القسمة منع ليقين الخطأ في إعطاء أحدها أقل من حقه ، وإعطاء الآخر ما ليس بحقه ولأصحابنا عن هذا جوابان :

أحدهما : أنه شنع مع القطع بتكاذب البينتين وليس بشنع في جواز تصادقهما ، فتبطل القسمة في التكاذب ولا تبطل مع جواز التصادق .

والجواب الثاني : أنه شنع في الباطن ، لامتناعه وليس بشنع في الظاهر لأننا نبطل السبب المتضاد ، ونحكم بالبينة في المال ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر " . فمن ثم أبطل المزني الإقراع بينهما لأن الشافعي قال فيمن مات عن زوجة مطلقة ، قد اشتبهت أنه لا قرعة بينهما ، فكذلك بأن مثله في إبطال القرعة في البينتين ، ولأصحابنا عن هذا جوابان :

أحدهما : أنه أبطل القرعة في الزوجتين والولدين ، لأنه قد رجع في الزوجتين إلى بيان الورثة ، وفي الولدين إلى بيان اتفاقه ولا يؤخذ بمثل ذلك في البينتين .

والثاني : أن دخول القرعة في الزوجتين والولدين تكون في أصل الدعوى التي لم يرد بها شرع ، وفي البينتين فيما ورد بمثله الشرع .

والفصل الثاني : أن اختار المزني لنفسه استعمال البينتين وقسم الملك بينهما نصفين ، لتكافئهما وأن لا بيان يرجع إليه بعدهما فيما أمكن من صدقهما ، أو قطع فيه بتكاذبهما ، واستشهد بأن الشافعي قال في المتنازعين لثوب أقام كل واحد منهما البينة أنه له نسجه في ملكه إن سوى بين ما لا ينتج إلا مرة ، كالقطن والكتان ، الذي يقطع فيه بتكاذب البينتين ، وبين ما يجوز أن ينسج مرتين كالخز ، والديباج ، الذي يمكن فيه التصادق ، ولأصحابنا عن هذا جوابان :

أحدهما : أنه لا حجة أن يحتج لمذهبه بمذهب غيره ، وإنما يحتج لمذهبه بأمارات الأدلة .

والثاني : أن قصد الشافعي في هذه المسألة من سماع الداخل فيما يتكرر نتجه ، ولا يتكرر ردا على أبي حنيفة ، في فرقه بينهما بسماع البينة فيما يتكرر نسجه وردها فيما لا يتكرر .

والفصل الثالث : أن أورد عن الشافعي مسألة فيمن مات عن دار ادعت زوجته أنه أصدقها ، وادعى أجنبي أنه ابتاعها ، وأن الشافعي قال : " ليس إلا إسقاط البينتين ، أو القرعة " وقد أبطل القرعة ، فثبت إسقاط البينتين وإسقاط القرعة ، فدل على وجوب القسم ولأصحابنا عن هذا جوابان :

[ ص: 336 ] أحدهما : أن المزني يبني هذا على أصل لم يخالف فيه ، وهو أن الشافعي إذا نص على قولين ثم عمل بأحدهما ، أنه يكون إبطالا للقول الآخر .

وعند غيره من أصحابنا أنه لا يكون استعماله إبطالا للآخر ، وإنما يكون ترجيحا له على الآخر .

والجواب الثاني : أن هذه المسألة محمولة على أهل مذهبه في نظائرها ، وهو أن ينظر في البينتين ، فإن تقدمت إحداهما على الأخرى حكم بالمتقدمة على المتأخرة ، سواء كانت بينة الصداق ، أو بينة الابتياع ، لفساد الثاني بعد الأول ، وإن أشكل كانت على الأقاويل الثلاثة في إسقاطها في أحدهما والإقراع بينهما في الثاني ، واستعمالها في الثالث ، وجعل نصف الدار صداقا ، ونصفها ابتياعا ، فلم يسلم له دليل ولا صح له استشهاد . والله أعلم .

مسألة ؟ قال الشافعي رحمه الله : " ولو كانت دار في يدي أخوين مسلمين ، فأقرا أن أباهما هلك وتركها ميراثا ، فقال أحدهما كنت مسلما وكان أبي مسلما ، وقال الآخر أسلمت قبل موت أبي ، فهي للذي اجتمعا على إسلامه ، والآخر مقر بالكفر مدع الإسلام " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل مات مسلما ، وترك ابنين أحدهما متفق على إسلامه قبل موت أبيه ، واختلفا في إسلام الآخر ، فقال الآخر : أسلمت أنا قبل موت أبي ، فالتركة بيننا .

وقال المسلم : بل أسلمت أنت بعد موت أبي ، فالتركة دونك ، والبينة معدومة
، فلا يقبل قول من ادعى تقدم إسلامه إذا أنكره أخوه لأننا على يقين من حدوث إسلامه ، وفي شك من تقدمه ، فكان القول فيه قول أخيه ، الذي أنكر تقدم إسلامه ، لأنه يستصحب فيه استدامة أصل متحقق ، بعد أن يحلف الآخر لجواز أن يكون الأخ صادقا في دعواه ، ويمينه على العلم دون القطع بالله أنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه لأنها يمين نفي على فعل غيره .

وهكذا لو مات حر وترك ابنين ، أحدهما متفق على حريته قبل موت أبيه ، والآخر مختلف فيه ، فادعى تقدم عتقه قبل موت أبيه ، ليكونا شريكين في ميراثه ، وادعى الحر أن أخاه أعتق بعد موت الأب ، فهو أحق بجميع الميراث ، كان القول مع عدم البينة ، قول الحر مع يمينه ، بالله أنه لا يعلم أن أخاه أعتق قبل موت أبيه ، وهو أحق بجميع الميراث بعد يمينه ، لأنه يستصحب أصل رق معلوم ، لم يدع تقدم هذا إذا كان موت [ ص: 337 ] الأب متفقا على موته ، والاختلاف في وقت إسلام الابن ، أو عتقه ، فأما إذا اتفقا على وقت إسلام الابن ، أو عتقه ، والخلاف في وقت موت الأب .

فقال الابن أسلمت أنا ، أو أعتقت في شهر رمضان ، ومات أبي في شوال فنحن شريكان في ملكه .

وقال الآخر : صدقت أنك أسلمت في شهر رمضان ، ولكن مات أبونا في شعبان .

فالقول قول الأخ الذي ادعى حدوث موت الأب في شوال ، دون من ادعى تقدم موت الأب في شعبان .

ويكونان شريكين في الميراث لأنه استصحب استدامة أصل معلوم ، هو بقاء الحياة حتى يعلم تقدم الموت .

فإن قيل : فقد خالفت هذا الأصل في الجناية على الملفوف إذا ادعى وليه أنه كان حيا وقت الجناية وادعى الجاني أنه كان ميتا ، جعلتم القول قول الجاني في أحد القولين ، وأسقطتم قول وليه ، في استصحاب أصل الحياة ؟

قيل : بينهما في أحد القولين فرق وإن سويا بينهما في القول الثاني : أنه قد تقابل في الحياة على الملفوف أصلان :

أحدهما : استصحاب حياة الملفوف .

والثاني : استصحاب براءة ذمة الجاني ، فجاز أن يغلب في أحد القولين براءة ذمة الجاني ، وجاز أن يغلب في القول الثاني بقاء حياة المجني عليه ، فلذلك كانت على قولين .

وليس في دعوى موت الأب ، إلا استصحاب أصل واحد هو استدامة حياته ولا يقابله أصل يعارضه ، فلذلك كان على قول واحد في استصحاب الحياة .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قالت امرأة الميت وهي مسلمة زوجي مسلم وقال ولده وهم كفار بل كافر وقال أخو الزوج وهو مسلم بل مسلم ، فإن لم يعرف ، فالميراث موقوف حتى يعرف إسلامه من كفره ببينة تقوم عليه " .

قال الماوردي : وصورتها في ميت مجهول الدين ، ترك زوجة وأخا مسلمين ، وابنا كافرا ، فادعت الزوجة ، والأخ أنه مات مسلما فالميراث لهما ، وادعى الابن أنه مات كافرا فالميراث له .

[ ص: 338 ] فإن عدمت البينة ، كان ميراثه موقوفا ، حتى يتبين أمره ، فيعمل على البيان ، أو يتصادقوا عليه ، فيعمل على التصادق ، أو يصطلحوا عليه ، فيجاز الصلح ، فإن وجدت البينة فإن تفرد بها أحد الفريقين من مدعي إسلامه ، أو كفره ، عمل عليها ، فإن شهدت بإسلامه ، كان ميراثه لزوجته ، وأخيه المسلمين ، وإن شهدت بكفره كان ميراثه لابنه الكافر ، وإن تعارضت فيه بينتان شهدت إحداهما بكفره ، وشهدت الأخرى ، بإسلامه ، كان على ما قدمناه من اعتبار الشهادتين ، وهي تنقسم على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تتقيد الشهادتان على مضادة يتكاذبان فيها .

والثاني : أن تتقيد على تصادق لا تكاذب فيه .

والثالث : أن يكونا مطلقين .

فأما القسم الأول : إذا كانتا مقيدتين على مضادة يكونان فيها متكاذبين ، بأن تشهد إحداهما ، أنه مات على كلمة الإسلام ، وتشهد الأخرى أنه مات على كلمة الكفر ، فهو على قولين وثالث مختلف فيه :

أحدها : إسقاطهما ويكون الأمر موقوفا على بيان ، أو إصلاح .

والقول الثاني : الإقراع بينهما ، والحكم لمن قرع منهما .

والثالث المختلف فيه : استعمالهما . فمن أصحابنا من بناه على الاختلاف المتقدم من الوجهين ، والذي عليه الجمهور ، أنه لا يصح تخريج هذا القول هاهنا وجها واحدا ، وإن جاز تخريجه في الوجهين ، لأن الابنين فيما تقدم شريكان والأخ والابن هاهنا متدافعان ، فصح الاشتراك هناك وبطل هاهنا .

وأما القسم الثاني : وهو أن تتقيد الشهادتان ، بغير مضادة يتكاذبان فيها فعلى ضربين أحدهما : أن تشهد إحداهما ، أنه كان كافرا في رجب ، وتشهد الأخرى أنه كان مسلما في شعبان ، فيحكم بالشهادة على إسلامه لحدوثه بعد كفره ويكون ميراثه لزوجته ، وأخيه المسلمين .

والضرب الثاني : أن تشهد إحداهما أنه كان مسلما في رجب ، وتشهد الأخرى أنه كان كافرا في شعبان ، فيحكم بالشهادة على كفره بعد إسلامه ، فيحكم بردته ، ولا يرثه أحد الفريقين من ورثته ، ويكون ميراثه لبيت المال .

وأما القسم الثالث : أن تكون الشهادتان مطلقتين بأن تشهد إحداهما أنه كان مسلما وتشهد الأخرى أنه كان كافرا من غير تقييد لوقت إسلامه ، ووقت كفره ، فقد [ ص: 339 ] تعارضتا ، ويكون على ما قدمناه من الأقاويل في القسم الأول ، لأنه لأحدهما على الآخر إذ ليس له في أحد الدينين أصل يترجح به .

التالي السابق


الخدمات العلمية