الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وإذا هلك مجهول الدين ، وترك أبوين كافرين ، وابنين مسلمين ، فادعى أبواه أنه مات كافرا ، وادعى الابنان أنه مات مسلما ولا بينة لأحدهما ، ففيه وجهان حكاهما ابن سريج :

أحدهما : أن القول فيه قول الأبوين الكافرين مع أيمانهما لأن كفره قبل بلوغه معلوم بكفرهما ، فلم يقبل دعوى الابنين في حدوث إسلامه ، لأن الأصل استصحاب كفره .

والوجه الثاني : يكون ميراثه موقوفا لتساوي الحالين بعد بلوغه في إسلامه ، وكفره ، لأن ما قبل بلوغه هو فيه تبع لا يتحقق إلا بعد بلوغه ، لو كان أبواه مسلمين ، وابناه كافرين .

فإن لم يعلم للأبوين كفر قبل الإسلام ، حكم بإسلام ولديهما ، ولا يمين عليهما ، وكانا أحق بميراثه من ابنيه ، وإن علم كفر الأبوين قبل الإسلام ، فيجوز أن يولد قبل إسلامهما فيجري عليه حكم الكفر قبل البلوغ ، ويجوز أن يولد بعد إسلامهما فيكون مسلما قبل البلوغ فهما على ضربين :

أحدهما : أن يكون النزاع في زمان ولادته ، فيدعي والداه أنه ولد بعد إسلامهما ، ويدعي ابناه أنه ولد قبل إسلامهما ، فالقول فيه قول الأبوين مع أيمانهما في إسلامه ، لأننا على يقين من حدوث ولادتهم ، وفي شك من تقدمها .

وإن كان النزاع في إسلام الأبوين ، فيدعي أبواه أنهما أسلما قبل ولادته ، ويدعي ابناه أنهما أسلما بعد ولادته ، فالقول قول الابنين في إسلام الأبوين بعد الولادة مع أيمانهما لأننا على يقين من حدوث إسلامهما وفي شك من تقدمه .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه ، أخرجتها من يدي من هي في يديه ، وأعطيته منها نصيبه ، وأخرجت نصيب الغائب ، وأكري له حتى يحضر .

قال الماوردي : وصورتها في رجل ادعى دارا في يد رجل أنها لأبيه مات عنها وورثها هو وأخوه ، وأقام على ذلك بينة كاملة ، وكمالها أن يشهد له بثلاثة أشياء : أحدها : أن يشهد بالدار لأبيه .

والثاني : أن يشهد بموت أبيه ، وأنه ورثه هو وأخوه .

[ ص: 340 ] والثالث : أن لا وارث له غيرهما على ما سنصف ، فتكمل البينة إذا شهدت بهذه الثلاثة ، وبكمالها يوجب انتزاع الدار ممن هي في يده ، ويدفع إلى الحاضر حقه منهما وهو النصف وتوقف حصة الغائب ، وهي النصف على قدومه ، واعترافه وتؤخر حصته حفظا لمنافعها عليه ، ولا تقر حصة الغائب في يدي من كانت في يديه ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .

وقال أبو حنيفة : تقر حصته في يدي من كانت في يده ، ولا تنتزع منه ، لأن البينة لا تسمع بملك إلا بعد صحة الدعوى ، والدعوى لا تسمع إلا من مالك ، أو وكيل فيه ، ولم يدع حصة الغائب مالك ولا وكيل فلم تسمع البينة له ، وليس كون الحاضر شريكا له في الميراث بموجب لسماع البينة في حقهما ، كالشريكين الأجنبيين ، إذا أقام أحدهما البينة بدار في شركتها انتزع بها حق الحاضر ، وأقر حق الغائب في يدي من كانت في يديه ، كذلك يجب أن يكون في شركة الميراث .

ودليلنا : هو أن هذه الدعوى هي للميت ، سمعت من وارثه ، لقيامه مقامه فيها بعد موته بدليل أنه لو كان على أبيه دين قضى منها فوجب انتزاعها في حق الميت ، وإعطاء الحاضر حصته منها ، ووقف الباقي على الغائب ، وخالف الشريكين الأجنبيين من وجهين :

أحدهما : أن الشريك مالك بنفسه لا عن غيره ، فكانت الدعوى في حقه موقوفة عليه ، والابن مدع لها عن أبيه الذي لا تصح منه الدعوى ، إلا بعد موته ، فجاز أن يستوفي بها جميع حقه .

والثاني : أن حق كل واحد من الأخوين ، مرتبط بحق الآخر لا يتميز أحدهما بشيء ، دون صاحبه ، لذلك كان ما تلف من الشركة تالفا منها ، وما بقي شركة بينهما ، وحق الشريكين كالمتميز مع الخلطة ، يجوز أن يتلف لأحدهما ما يسلم للآخر ، فافترق بهذين حكم الأخوين ، وحكم الشريكين ، وإذا كان كذلك ، وقدم الآخر الغائب ذكر له الحاكم ، ما حكم له بميراثه من نصف الدار ، فإن ادعاها سلم إليه نصفها وإن أنكرها وقال : لا حق لي فيها ، رد النصف على من في يده ، ولم يؤثر إنكاره في حق أخيه ، لأنه قد ملك بينة عادلة .

فصل : فأما إذا ما ادعاه الابن ، وأقام عليه البينة دينا في الذمة سلم إليه حقه منه ، وهو النصف ، وفي قبض حصة الغائب من الغريم وجهان :

أحدهما : يقبض ويوضع على يد أمين كما تقبض الأعيان من الدار ، وما لا يثبت في الذمة من ثياب وحيوان .

[ ص: 341 ] والوجه الثاني : لا يقبض الدين ، وإن وجب قبض الأعيان ويستبقى في ذمة الغريم بخلاف المعين ، لأن قبضه للغائب معتبر بالأحوط ، واستبقاؤه في ذمة مضمونة أولى من قبضه بتركه أمانة إلا أن يكون الدين على غير ملي ، فيقبض وجها واحدا .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن لم يعرف عددهم وقف ماله وتلوم به ، ويسأل عن البلدان التي وطنها هل له فيها ولد ؟ فإذا بلغ الغاية التي لو كان له فيها ولد لعرفه ، وادعى الابن أن لا وارث له غيره أعطاه المال بالضمين وحكي أنه لم يقض له إلا أنه لم يجد له وارثا غيره فإذا جاء وارث غيره أخذ الضمناء بحقه " .

قال الماوردي : وقد مضى الكلام في البينة الكاملة إذا أقامها الابن الحاضر ووجوب الحكم بها للحاضر والغائب ، فأما البينة الناقصة فعلى ضربين :

أحدهما : أن تشهد بالدار للميت ، ولا تشهد للحاضر بالبنوة ، فلا يتعلق بهذه الشهادة حق للحاضر ، ولا للغائب ، وتكون الدار مقرة في يدي من هي في يده ، لأن دعواها لم تسمع من مستحق لها فلم يكن لبينته تأثير ، حتى يقيم البينة على ثبوت نسبه .

فإذا أقامها وثبت نسبه بها ، استغنى عن إعادة الدعوى والبينة ، وإن كانا قبل ثبوت النسب ، لأن ما قدمه من الدعوى قد تضمنت الدار والنسب على وجه صح به سماعها ولو شهدت بينته الأولى بالدار والنسب ، حكم له بها كذلك ، إذا شهدت الأولى بالدار ، وشهدت الثانية بالنسب حكم بهما .

ولو استأنف الدعوى ، وأعاد البينة كان أولى .

والضرب الثاني : أن تشهد البينة بالدار للميت ، وتشهد للحاضر بالبنوة ، ولا تشهد أن لا وارث له غيره ، فقد قامت البينة بهما وكان مالكا لنصيب مجهول من الدار ، لا يعلم قدره . وله حالتان :

إحداهما : أن يقدر على إقامة بينة بأن لا وارث له غيره .

الثانية : أن يعجز .

فإن قدر على إقامتها ، وشهدت بينة عادلة ، بأن لا وارث غيره نظر في البينة ، فإن كانت من أهل المعرفة الباطنة بالميت ، على قديم الوقت وحدوثه في حضره وسفره سمعت ، وحكم له بالميراث ، ولم يطالب بضمين ، لأنه قد أقام بينة إن لم يعمل بموجبها ، أعملت .

وإن كانت من أهل المعرفة الظاهرة دون الباطنة لم تصح شهادتهم ، بأن لا وارث [ ص: 342 ] غيره ، لأنه قد يجوز أن يكون له في الباطن ولد ، لا يعلمون به فلم يصلوا بمعروف الظاهر إلى معرفة ما قد يكون في الباطن ، فلم يحكم به وصار كمن لم يقم بينة بأن لا وارث له غيره .

وإذا لم يقمها منع من حقه في الدار للجهل بمقداره ، ولزم الحاكم أن يستكشف عن حال الميت في البلاد التي وطئها ، ويكاتب حكامها بالمسألة عن حاله ، هل خلف فيها ولدا أو وارثا ويلزم به فإنه لا يخفى حال وارث له في مثله ، فإن حضرته بينة جاز أن يسمعها الحاكم من غير دعوى ، وعلى غير خصم ، لأنها بينة على ما قد لزم من الكشف فكانت في حق نفسه لتقييد ما قد حكم به ، والبينة تكون من أهل المعرفة الباطنة به أنهم لا يعلمون له وارثا غيره ، لأنها بينة على نفي فحملت على العلم دون القطع ، فإن شهدوا أن لا وارث له غيره قبلوا وكانت شهادتهم محمولة على العلم ، دون القطع ، ودفع إليه الميراث بعد تمام الشهادة ، من غير ضمين .

وإن لم يظهر للحاكم بينة ، وبلغ زمان الإياس من الظفر بها ، وأن يظهر ما لم يظهر دفع إليه المال ، إن لم يقر بغيره ، فإن أقر بأخ له غائب أعطاه نصف الدار والتركة ، وكان نصفها موقوفا على قدوم الغائب .

فأما مطالبة الحاضر بإقامة ضمين فيها ، دفع إليه احتياطا ؟ لظهور شريك قد يكون له في الميراث حق ، فقد قال الشافعي في هذا الموضوع ما يدل على وجوب الضمين وقال في كتاب الإقرار : ما يدل على استحبابه ، فاختلف أصحابه فيه على أربعة مذاهب :

أحدها : أن خرجوا اختلاف نصه في الموضعين على اختلاف قولين :

أحدهما : يجب ليكون نفوذ الحكم على الأحوط .

والقول الثاني : يستحب ، فلا تجب لأنها وثيقة لغير مطالب .

والوجه الثاني : إن كان هذا الوارث ممن لا يسقط بغيره كالابن لم يجب عليه إقامة ضمين ، وإن كان ممن يسقط بغيره كالأخ ، وجب عليه إقامة ضمين .

والوجه الثالث : إن كان أمينا لم يجب عليه إقامة ضمين ، وإن كان غير أمين وجب عليه .

فإن قيل : لم قلتم تقسمون مال المفلس بين غرمائه بعد إشاعة أمره من غير ضمين مع جواز ظهور غريم .

[ ص: 343 ] قيل : لوقوع الفرق بينهما ، بأن حقوق الغرماء متحققة وحق هذا الوارث غير متحقق ، فإذا دفع الحاكم المال إليه على ما وصفنا كتب قصته ، وذكر فيها أن دفع المال إليه بعد الكشف الظاهر من غير حكم قاطع بأمر الاستحقاق ليكون إن ظهر له شريك في الميراث غير مدفوع بنفوذ الحكم عليه بإبطال حقه منه ، ليكن من المطالبة وإقامة البينة .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو كان مكان الابن أو معه زوجة ولا يعلمونه فارقها ، أعطيتها ربع الثمن لأن ميراثها محدود للأكثر والأقل الثمن وربع الثمن وميراث الابن غير محدود " .

قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو مدعي الميراث ، إذا أقام البينة بسبب ميراثه ، وعدم البينة ، بأن لا وارث له غيره من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون ممن لا يسقط بحال كالابن ، فيوقف أمره في الحال على الكشف ، ولا يدفع إليه من التركة شيء ، لأنه ليس له قدر متيقن ، فإن لم يبن بعد كشف الحاكم وارث غيره ، دفع إليه الميراث على ما قدمناه من حال الضمين .

والقسم الثاني : أن يكون ممن يجوز أن يرث في حال كالأخ ، فيوقف أمره على الكشف ، فإن لم يبن للحاكم بعد طول الكشف وارث سواه ، ولم يقم البينة بأن لا وارث له سواه ، فقد اختلف أصحابنا هل يجري مجرى الابن في دفع الميراث إليه ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول جمهورهم : أنه يدفع إليه كالابن ، لأن لم يعلم وارث غيره .

والوجه الثاني : وهو قول ابن سريج أنه يكون موقوفا على الأبد ، حتى تقوم البينة بأن لا وارث له غيره بخلاف الابن ، لوقوع الفرق بينهما بأن الابن وارث في الأحوال كلها بيقين ، والأخ مشكوك فيه ، هل هو وارث ، أو غير وارث ، فلم يجز أن يرث إلا بيقين ، وهكذا حكم ابن الابن لجواز سقوطه بالابن .

والقسم الثالث : أن يكون ممن لا يسقط بحال ، وله فرض مقدر كالأبوين ، والزوجين ، فيدفع إليه أقل فرضه ، لأنه يستحقه بيقين ويوقف أكثره على الكشف ، فإن كان أبا دفع إليه السدس معولا .

وإن كانت أما فكذلك يدفع السدس معولا ، وإن كان زوجا ، دفع إليه الربع معولا ، وإن كانت زوجة دفع إليها ربع الثمن معولا ، لجواز أن تكون واحدة من أربع [ ص: 344 ] فإن لم يظهر بعد طول الكشف من يحجب هؤلاء عن أعلى الفرضين صار كالابن يدفع إليه باقي فرضه الأعلى بضمين على ما ذكرناه من الوجوه .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا ماتت زوجته وابنه منها ، فقال أخوها : مات ابنها ثم ماتت ، فلي ميراثي مع زوجها ، وقال زوجها : بل ماتت فأحرز أنا وابني المال ثم مات ابني فالمال لي ، فالقول قول الأخ لأنه وارث لأخته وعلى الذي يدعي أنه محجوب البينة وعلى الأخ ، فيما يدعي أن أخته ورثت ابنها البينة " .

قال الماوردي : وصورتها في امرأة ذات زوج ، وابن ، وأخ ، ماتت وابنها ، واختلف زوجها ، وأخوها فقال الأخ : مات ابنها قبلها ، فكان ميراثه بينك وبينها ، ثم ماتت بعده ، فكان ميراثها بيني وبينك ، فلك ميراث زوج هو النصف ، ولي معك ميراث أخ ، هو النصف وقال الزوج : بل ماتت الزوجة قبل ابنها ، فورثتها مع ابنها دونك ثم مات الابن ، فورثته دونك .

فإن كان لواحد منهما بينة بما ادعاه ، حكم بها ، وإن عدمت البينة ، كان تنازعهما في تقدم الموت ، وتأخره معتبرا بالغرقى ، والهدمى ، فيقطع التوارث بين الميتين ، ويجعل تركة كل واحد منهما للحي من ورثته فيجعل تركة الابن لأبيه ، كأنه لا أم له ، ويجعل تركة الأم بين زوجها وأخيها ، كأنه لا ابن لها ، فيعطى زوجها النصف والنصف الباقي للأخ .

فإن قيل : فالزوج يدعي من تركتها مع الابن الربع ، فلم أعطي النصف وهو لا يدعيه ؟ قيل : هو وإن ادعى الربع بميراثه عنها ، فقد ادعى باقيه بميراثه عن أبيه مع اختلاف السببين ، فصار بإعطاء النصف مدفوعا عن استحقاق الكل ، فصار معطى بعض ما ادعى ولم يعط أكثر منه .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أقام البينة أنه ورث هذه الأمة من أبيه ، وأقامت امرأة البينة أن أباه أصدقها إياها ، فهي للمرأة كما يبيعها ولم يعلم شهود الميراث " .

قال الماوردي : وصورتها في أمة تنازعها ابن ميت ، وزوجته ، فقال الابن : هذه الأمة لي ورثتها معك عن أبي ، وقالت الزوجة : هذه الأمة لي ملكتها عن أبيك بصداقي .

فإن عدمت البينة ، فالقول قول الابن مع يمينه ، لأنها على أصل ملك الأب ، وموروثه عنه ، ودعوى الزوجة لها صداقا غير مقبولة ، كما لو ادعتها ابتياعا .

[ ص: 345 ] وإن أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه ، فشهدت بينة الابن أن أباه خلفها ميراثا ، وشهدت بينة الزوجة أنه جعلها لها صداقا ، حكم للزوجة دون الابن ، لأن بينتها أعلمت زيادة لم تعلمها بينة الابن فكان الحكم بالزيادة أولى ، كما لو ادعت بالابتياع كانت بينة الابتياع أولى من بينة الورثة .

ولأن الميت لو كان حيا فقامت عليه البينة في أمة يملكها أنه باعها ، أو أصدقها قضي بها عليه ، وإن أنكرها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية