الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما إذا تعارضت البينتان ، وكان العبد في يد المشتري ففي ترجيح بينته بيده وجهان :

أحدهما : يرجح بيده ، لأن بينته بينة داخل ، وبينة العبد بينة خارج ، فوجب أن يقضي ببينة المشتري في ابتياع جميعه ، وتبطل بينة العتق ، وليس للعبد إحلاف سيده ، لأنه لا غرم عليه لو أقر له .

والوجه الثاني : ترجح بينته بيده ، لأنه قد أضاف ملكه إلى سببه ، فزال بذكر السبب حكم اليد ، ويتفرع على هذين الوجهين إذا تنازع رجلان في ابتياع عبد من رجل ، وأقام أحدهما البينة أنه ابتاعه منه ، وقبضه ، وأقام الآخر البينة أنه ابتاعه منه ولم يقولوا : إنه قبضه ، فإن رجحت البينة باليد رجحت بالقبض ، وإن لم ترجح باليد ، لم ترجح بالقبض وقد نص الشافعي على أنها ترجح بالقبض ، لأن البيع بالقبض منبرم وقبل القبض متردد بين سلامة المبيع ، فيبرم ، أو تلف ، فيبطل ، فكان ترجيحه بالقبض دليلا على ترجيحه باليد .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا أقبل البينة أن هذه الجارية بنت أمته حتى يقولوا ولدتها في ملكه " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل ادعى جارية في يد غيره أنها بنت أمته وأقام البينة على أنها بنت أمته لم يقض له بملكها ، لأنه قد يجوز أن تلدها الأم قبل أن تملك الأم ، وهكذا لو ادعى ثمرة ، وأقام البينة أنها ثمرة نخلته ، لم يقض له بملك التمرة لجواز أن يكون ملك النخلة بعد حدوث الثمرة .

وهكذا لو ادعى صوفا ، وأقام البينة أنه من صوف غنمه ، لم يقض له بالصوف لجواز أن يملك الغنم بعد جزاز الصوف ، فصارت البينة غير مثبتة ، فلذلك لم يقض بها فإن شهدوا أنها بنت أمته ولدتها في ملكه ، وفي الثمرة أنها ثمرة نخلته أثمرتها في [ ص: 367 ] ملكه ، وفي الصوف أنه من غنمه جز في ملكه ، قضي له بملك الجارية والثمرة ، والصوف لأن من ملك أصلا ، ملك ما حدث عنه من النماء .

ألا ترى أن المغصوب منه يستحق نماء ملكه مع استرجاع أصله ، فصارت الشهادة بهذا شهادة بالملك وسببه ، فكانت أوكد من الشهادة ، بمجرد الملك .

فإن قيل : فهذه شهادة بملك متقدم ، وليست شهادة بملك في الحال ، فصار كشهادتهم أن هذه الجارية كان مالكا لها في السنة الماضية ، فلا يوجب ذلك أن يحكم له بملكها ، فكذلك في الولادة .

قيل : قد نص الشافعي أن الشهادة بقديم الملك لا توجب الملك في الحال ، والشهادة بقديم الولادة والنتاج يوجب الملك في الحال ، فاختلف أصحابه في اختلاف النصين مع تشابه الأمرين فكان البويطي ، وابن سريج ، يحملانه على اختلاف قولين :

أحدهما : يحكم بالملك في الشهادة بقديم الملك ، والشهادة بالولد ، والنتاج على ما نص عليه في النتاج ، استصحابا لثبوته .

والقول الثاني : أنه لا يحكم له بالملك في الشهادة بقديم الملك ، والشهادة بالولد ، والنتاج ، على ما نص عليه في الشهادة بقديم الملك ، لأن الملك المتقدم قد يزول بأسباب فلم توجب ثبوت الملك في الحال .

وكان أبو إسحاق المروزي ، وأبو علي بن أبي هريرة ، وأكثر المتأخرين ، يمنعون من تخريج ذلك على قولين ، ويحملون جواب الشافعي على ظاهره في الموضعين ، فيحكمون له بملك الولد والنتاج ، إذا شهدوا له بحدوث الولادة والنتاج في ملكه ، ولا يحكمون له بملكهما ، إذا شهدوا له بقديم ملكه ، وفرقوا بينهما من وجهين :

أحدهما : أنهم شهدوا في الولادة والنتاج بأنه نماء ملكه ، ونماء ملكه لا يجوز أن يكون لغيره ، كما لو شهدوا له بغصب ماشية نتجت ، ونخل أثمرت ، ملك به النتاج والثمرة ، وليس كذلك شهادتهم بقديم الملك ، لتنقل أحواله من مالك إلى مالك .

والثاني : أن النتاج لما لم يتقدمه فيه مالك ، صار في تملكه أصلا ، وقديم الملك ، لما تقدمه فيه مالك ، صار في تملكه فرعا وحكم الأصل أقوى من حكم الفرع .

فإن قيل : فليس يمتنع أن يحدث الولد لغير مالك الأم ، كالموصي إذا وصى بأمته لزيد وبحملها لعمرو ، فإنها تلده في ملكه ، وليس يملكه .

قيل : هذا نادر أخرجته الوصية عن حكم أصله ، فصار كالاستثناء الذي لا يمنع جوازه من استعمال أصله على العموم قبل وروده .

[ ص: 368 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية