الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والدليل على اعتبار الشبه في الأنساب ، إذا اشتبهت ، والعمل فيها بالقيافة ، ما روى الشافعي في صدر الباب عن سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضوان الله عليها ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه . وروى ابن جريج ، عن الزهري : تبرق سرائر وجهه ، فقال : ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد ، عليهما قطيفة ، قد غطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض . ففيه دليلان :

أحدهما : أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد بن حارثة ، لأن زيدا كان قصيرا عريض الأكتاف أخنس أبيض اللون ، وكان أسامة مديد القامة أقنى أسود [ ص: 383 ] اللون ، وكان زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره القدح فيه وفي أسامة ، فلما جمع مجززا المدلجي بينهما في النسب ، بقوله : " هذه أقدام بعضها من بعض " سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لزوال القدح فيهما ، ممن كان يطعن في نسبهما ، فلو لم تكن القيافة حقا ، لما سر بها ، لأنه لا يسر بباطل ، ولرد ذلك عليه وإن أصاب ، لأن لا يأمن من الخطأ في غيره .

والثاني : أن الشرع مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله ، وإقراره ، فكان إقراره لمجزز على حكمه شرعا من الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز العمل به .

ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى الأبطح ، فرأى بعض قافة الأعراب ، فقال : ما أشبه هذا القدم بقدم إبراهيم التي في الحجر ، فألحقه بالجد الأبعد ، وأقره على اقتفاء الأثر ، ولم ينكره ، فثبت اعتبار الشبه بالقافة شرعا ، ويدل على اشتهاره في الإسلام ، أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار ثور مختفيا فيه من قريش ، أخذت قريش قائفا يتبع به أقدام بني إبراهيم ، فيتتبعها حتى انتهى إلى الغار ثم انقطع الأثر ، فقال : إلى هاهنا انقطع أثر بني إبراهيم ، فلم يكن من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إنكار ، فثبت أنه شرع ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر الشبه في ولد العجلاني ، فقال : " إن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد صدق عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد كذب عليها ، فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان " وروي " القرآن لكان لي ولها شأن " . يعني في إلحاق الولد بالفراش ، ونفيه عن العاهر ، ولولا أن الشبه مع جواز الاشتراك حكم ، لأمسك عنه كيلا يقول باطلا ، فيتبع فيه وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن قول الباطل كما نزهه عن فعله .

ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا غلب ماء الرجل كان الشبه للأعمام ، وإذا غلب ماء المرأة كان الشبه للأخوال " ، فدل على أن للشبه تأثيرا فيما أشبه ، فقد كان بعض أصحابنا يستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ، فجعل للفراسة حكما ، ويدل عليه من طريق الإجماع اشتهاره في الصحابة ، رضي الله عنهم أنهم فعلوه ، وأقروا عليه ، ولم ينكروه ، حتى روي أن أنس بن مالك شك في ابن له ، فأراه القافة ، ولو كان هذا منكرا لما جاز منهم إقرارهم على منكر ، فصار كالإجماع ، وقد جرى في أشعارهم ما يدل على اعتبار القيافة عندهم ، واشتهار صحتها بينهم ، حتى قال شاعرهم :


قد زعموا أن لا أحب مطرفا كلا ورب البيت حبا مسرفا     يعرفه من قاف أو تقوفا
بالقدمين ، واليدين ، والقفا     وطرف عينيه إذا تشوفا

[ ص: 384 ] ويدل عليه من طريق المعنى ، هو أن الحادثة في الشرع ، إذا تجاذبها أصلان ، حاظر ، ومبيح ، لم ترد إليها ، وردت إلى أقواهما شبها بها ، كذلك في اشتباه الأنساب .

والدليل على إبطال إلحاق الولد يأتي في قول الله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ الحجرات : 13 ] . وهذا خطاب لجميعهم فدل على انتفاء خلق أحدهم من ذكرين وأنثى ، وقال تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ) [ الإنسان : 2 ] . فمنع أن يكون مخلوقا من نطفتين ، ويدل عليه أن ليس في سالف الأمم وحديثها ، ولا جاهلية ، ولا إسلام ، أن نسبوا أحدا في أعصارهم ، إلى أبوين ، وفي إلحاقه باثنين خرق العادات ، وفي خرقها إبطال المعجزات ، وما أفضى إلى إبطالها ، بطل في نفسه ، ولم يبطلها والقياس ، هو أنهما شخصان ، لا يصح اجتماعهما على وطء واحد فلم يجز أن يلحق الولد بهما كالحر مع العبد ، والمسلم مع الكافر ، فإن أبا حنيفة يمتنع من إلحاقه بهما ، وإن اشتركا في الوطء فيلحقه بالحر دون العبد ، والمسلم دون الكافر ، والدليل على إبطال خلقه من ماءين مع ما قدمناه من نص الكتاب شيئان :

أحدهما : ما أجمع عليه أمم الطب في خلق الإنسان ، أن علوق الولد يكون حين يمتزج ماء الرجل بماء المرأة ، ثم تنطبق الرحم عليهما بعد ذلك الامتزاج ، فينعقد علوقه لوقته ، ولا يصل إليه ماء آخر ، من ذلك الواطئ ولا من غيره ، وقد نبه الله تعالى على قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ) يعني أصلاب الرجال ، وترائب النساء ، والترائب الصدور فاستحال ، بهذا خلق الولد من ماءين من ذكر أو من ذكرين .

والثاني : أنه لما استحال في شاهد العرف أن تنبت السنبلة من حبتين ، وتنبت النخلة من نواتين ، دل على استحالة خلق الولد من ماءين .

فإن قيل لما لم يستحل خلق الولد من ماء ذكر ، وأنثى ، لم يستحل أن يخلق من ماء ذكرين وأنثى .

قيل : قد جوزتم ما يستحيل إمكانه في العقول ، والعيان من إلحاق الولد ، بأمين فكيف اعتبرتم إنكار إلحاقه بأبوين ؟ وتعليلكم بالإمكان في الأبوين يبطل إلحاقكم له بأمين ، وكلا الأمرين عندنا مستحيل في الأبوين ، والأمين ، ثم نقول ما استحال عقلا وشرعا في لحوق الأنساب ، لم يثبت به نسب كابن عشرين إذا ادعى أبوه ابن عشرين سنة لم يلحق لاستحالته ، كذلك ادعاء امرأتين ولدا لم يلحق بهما لاستحالته .

التالي السابق


الخدمات العلمية