الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الفصل الرابع : في ثبوت الحكم بلحوق النسب بقول القافة ، فهو معتبر باستلحاق النسب ، واستلحاقه على ضربين :

أحدهما : أن يكون لاشتراكهما في فراش .

والثاني : إذا تداعيا لقيطا .

فإن كان لاشتراكهما في فراش ، لم يصح إلحاقه بالقافة إلا بحكم الحاكم ، لأن الفراش قد أوجب لهما حقا ، وأوجب عليهما حقا في إلحاقه بأحدهما ، ونفيه عن الآخر ، وألحق لهما على الولد ، وألحق عليهما للولد ولذلك وجب إلحاقه بأحدهما ، وإن لم يتنازعا فيه ، ولم يجز أن يسلمه أحدهما إلى الآخر ، فكان أغلظ من اللعان الذي لا يصح إلا بحكم حاكم ، فكان هذا أولى أن لا يصح إلا بحكم حاكم ، لأن اللعان يختص بالنفي دون الإثبات ، والقيافة تجمع بين النفي والإثبات .

وإن كان استحقاق الولد في ادعاء لقيط لم يعرف لهما فيه فراش مشترك ، فهو حق لهما وليس بحق عليهما في الظاهر ، لأنهما لو لم يتنازعا فيه ، لم يعترض لهما ، [ ص: 391 ] ولو سلمه أحدهما إلى الآخر صح وانتفى عمن سلمه ، ولحق من سلم إليه ، فلم يفتقر استلحاقه إلى حكم ، وجاز أن ينفرد باستعمال القافة فيه إن اختارا ، وجاز أن يتحاكما فيه إلى حاكم ، إن اختلفا ، فإن تنازعا فيه إلى حاكم ، وقف اختيار القائف على الحاكم دونهما ، وإن لم يتنازعا فيه إلى حاكم ، وقف اختيار القائف عليهما فإذا اتفقا على اختيار قائف كانا فيه بالخيار في تحكيمه ، أو استخباره ، على ما سنذكره من شرح التحكيم ، والاستخبار .

فإن استخبره ، فأخبر كان موقوفا على إمضائهما والتزامهما .

وإن حكماه فحكم كان في لزوم حكمه لهما قولان : وإن اختلفا في اختيار القائف ، إذا حلفا بعد الاتفاق عليه في تحكيمه ، أو استخباره لم يعمل على اختيار واحد منهما ، وتنازعا فيه إلى الحاكم ليحكم بينهما ، وإذا كان الحاكم هو الناظر بينهما في لحوق النسب ، إما في الفراش المشترك حتما واجبا ، وإما في اللقيط المدعى ، إما بالتراخي والاختيار ، وإما أن يطلبه أحدهما دون الآخر ، فيؤخذ الممتنع جبرا بالحكم ، وإنما يجوز للمتنازعين في اللقيط أن ينفردا بالقيافة إذا اتفقا على التراخي في تفردهما به ، دون الحاكم .

فإذا أراد الحاكم الحكم بينهما ، اختار من القافة أوثقهم وأغلبهم ، واجتهد رأيه في تحكيم القائف ، أو استخباره فإن أداه اجتهاده إلى تحكيمه ، كان ذلك استخلافا له في الحكم بينهما ، فيراعي في استنابته شروط التقليد ، واختبر في العلم بشروط الإلحاق ، فإن قضى بها ، أعلمه بها .

فأما المختص منها بفطنته فقوة حسه ، فهو مركوز في طبعه ، ويجوز أن يقتصر على قائف واحد ، لأنه حكم ، فجاز من القائف الواحد ، فإن جمع فيه بين قائفين احتياطا كان أوكد ، كما جمع في شقاق الزوجين بين الحكمين .

ولا ينفذ الحكم في لحوقه بواحد منهما ، حتى يجتمعان عليه ، فإذا ألحقه القائف الواحد إذا أفرد أو القائفان إذا جمع بينهما بأحد المتنازعين فيه ، ونفاه عن الآخر لحقه ، وانتفى عن الآخر ، ولو ألحقه بأحدهما ، ولم ينفه عن الآخر ، لم يلحق به ، لجواز أن يرى اشتراكهما فيه ، ولو نفاه عن أحدهما ولم يلحقه بالآخر ، انتفى عمن نفاه عنه ، وصار الآخر منفردا بالدعوى فلحق به ، لانفراده بالفراش ، لا بالقائف .

ولو تنازع في دعواه ثلاثة ، فألحقه بأحدهم ، ونفاه عن الآخرين ، أمضى حكمه في إلحاقه ونفيه ، ولو نفاه عن أحدهم ، خرج من الدعوى ، وصارت بين الآخرين ، ولو نفاه عن اثنين ، خرجا من الدعوى ، وصار لاحقا بالباقي ، لانفراده بالدعوى ، لا بقول القائف ، فإن لحق بأحدهم لإلحاق القائف به ، ونفيه عن غيره استقر حكمه في ثبوت [ ص: 392 ] نسبه ، ولزم الحاكم تنفيذ حكمه ، وإن نفاه القائف عن أحدهما استقر حكمه بالنفي ، ولم يستقر حكمه باللحوق ، حتى يحكم له الحاكم باللحوق ، بحكم الانفراد بالدعوى ، فإن رجع القائف بعد حكمه بذكر الغلط فيه ، لم يقبل رجوعه ، لأن نفوذ الحكم بالاجتهاد يمنع من نقضه باجتهاد .

وإن رأى الحاكم اجتهاده إلى استخبار القائف دون تحكيمه ، أنكر القائف مخبرا ، والحاكم هو المنفرد بالحكم ، جاز ولزمه أن يجمع بين قائفين ، ولم يجز أن يقتصر على واحد منهما ، وإن كان خبر الواحد مقبولا ، لأن الحاكم لا يجوز أن يحكم بخبر الواحد ، وإنما يجوز أن يحكم بشهادة اثنين . كما لا يحكم في التقويم إلا بقبول مقومين ، فإذا أراد القائفان بعد اجتهادهما ، أن يذكرا للحاكم ، ما صح عندهما من لحوق الولد بأحدهما ففيه وجهان :

أحدهما : يكون خبرا يؤدى بلفظ الإخبار ، ولا تكون شهادة تؤدى بلفظ الشهادة ، لأن الشهادة تختص بفعل مشاهد ، وقول مسموع ، وليس في القيافة ، واحد منهما ، فكان خبرا ، ولم يكن شهادة ، فعلى هذا يجب على الحاكم أن يسألهما عن سبب علمهما ، ليجتهد رأيه فيهما إن ذكرا اشتراكهما في الشبه ، ولا يجب عليه سؤالهما إن كان مختصا بأحدهما ، دون الآخر ، لأن عليه في الاشتراك أن يجتهد رأيه في الترجيح ، فلزمه السؤال ، وليس عليه في اختصاص أحدهما بالترجيح بالشبه ، اجتهـاده في الترجيح ، فلم يلزمه السؤال ، ولكن عليه أن يسألهما أفي الشبه اشتراك ؟ حتى يسألهما عن سببه ، ويجتهد رأيه فيه ، أو ليس فيه اشتراك ؟ حتى لا يسألهما عنه ، ولا يجتهد رأيه فيه ، ويقتنع منهما أن يقولا هذا ولد هذا دون هذا .

والوجه الثاني : أن تكون شهادة تؤدى بلفظ الشهادة ، وإن لم تكن عن مشاهدة ، لأن الدال يشهد ، والحكم مختص بالشهادة دون الخبر .

فعلى هذا لا يجب على الحاكم أن يسألهما عن سبب علمهما ، لأن الشاهد لا يسـأل عن سبب علمه بما شهد لكن إن كان الشبه مختصا بأحدهما ، جاز للقائفين أن يشهدا بأنه ولد هذا دون هذا ، وإن كان الشبه مشتركا يحتاجا إلى اجتهاد في ترجيح ففيما يشهدان به وجهان :

أحدهما : يشهدان بما أدى إليه اجتهادهما من لحوق نسبه بأحدهما .

والوجه الثاني : يشهدان بالشبه الموجب للحوق النسب بأحدهما ليجتهد الحاكم رأيه دونها ، وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا ، هل يسوغ للشهود أن يجتهدوا فيما يؤدوه إذا كان الاجتهاد فيه سماع ؟ .

فإذا أدى القائفان إلى الحاكم ما عندهما من لحوق النسب بأحدهما خبرا على [ ص: 393 ] أحد الوجهين ، أو شهادة على الوجه الآخر لزم الحكم بقولهما في إلحاق النسب بمن ألحق ، ونفيه عمن نفوه ، وهو قبل حكم الحاكم ، غير لاحق بواحد منهما ، فإن رجع القائفان في قولهما ، وألحقوه بمن نفوه عنه لخطأ اعترفا به ، روعي رجوعهما ، فإن كان بعد حكم الحاكم بقولهما ، لم ينقص حكمه وأمضاه على ما حكم به ، وإن كان قبل حكمه بقولهما لم يكن نسبه للأول ، ولا للثاني .

أما الأول : فلبطلان الشهادة ، بالرجوع عنها .

وأما الثاني : فلتعارض القولين فيه .

فإن أشكل على القائفين لحوق نسبه ، وبان ذلك لغيرهما عمل عليه ، وإن أشكل على غيرهما عدم النسب من جهة القافة ، ووجب أن يوقف النسب للشك ، حتى ينتسب الولد بطبعه إلى أحدهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من شأن الرحم إذا تماست تعاطفت " .

وله في زمان انتسابه قولان :

أحدهما : وهو القديم إلى استكمال سبع ، وهي الحال التي يخير فيها بين أبويه .

والقول الثاني : وهو الجديد الصحيح إلى بلوغه ، لأنه لا يمكن بقوله في لوازم الحقوق قبل البلوغ ، وإن قبل في الاختيار لأحد أبويه ، لأنه ليس من الحقوق ، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به ، ولا يعتبر فيه تصديق الأب ، فلو رجع وانتسب إلى الآخر لم يقبل رجوعه بعد لحوقه بالأول .

ولو وجدت القافة بعد انتسابه إلى أحدهما ، لم يلحق به لاستقرار لحوقه بالانتساب إلى الأول .

ولو مات الولد قبل انتسابه إلى أحدهما ، قامت ورثته ، مقامه في الانتساب ، إلى أحدهما ، ولو مات المتنازعان والولد باق جمع بينه وبين عصبتهما ، وكان له بعد الاجتماع معهم أن ينتسب إلى أحدهما ، فإن مات أحدهما وبقي الآخر نظر ، فإن كان التنازع في فراش مشترك انتسب إلى من اختار من الحي ، أو الميت ، وإن كان التنازع في لقيط ففيه وجهان :

أحدهما : يكون كالفراش في انتسابه إلى أحدهما .

والثاني : أنه يلحق بالباقي ، لانقطاع دعوى الميت .

وقد روى زيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب عليه السلام حين قلده رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن ، اختصم إليه ثلاثة في ولد امرأة ، وقعوا عليها ، في طهر واحد ؟ تنازعوا فيه ، فأقرع بينهم ، وألحقه بمن قرع منهم ، وأخبر به [ ص: 394 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه فقيل : إنه أقرع بينهم لإشكاله على القافة ، وقيل : إنما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرعة : لأنه لا مدخل لها في لحوق النسب ، لوجود ما هو أقوى ، وهو انتساب الولد .

التالي السابق


الخدمات العلمية