الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وإذا ثبت ما قررناه في أصول الأقسام في هذين القسمين عموما وخصوصا ، وحضر منهم من لا رق عليه ، ولا ولاء ، فادعى نسب لقيط لا رق عليه ، ولا ولاء نظر في دعواه .

[ ص: 404 ] فإن ادعاه ولدا ، سمعت دعواه إذا مكنت ، ولحق به ولدا وناسب جميع من ناسبه مدعيه ، من آبائه وأبنائه ، وإخوانه ، وأعمامه ، سواء صدقوه عليه أو خالفوه ، فإن كان مسلما أجري على اللقيط حكم الإسلام ووجب حفظ نسبه في حقه ، وإن لم يجب في حق المدعي ، وإن كان كافرا فوجهان :

أحدهما : يجرى عليه حكم الإسلام ، ويمنع منه قبل البلوغ ، لئلا يلقنه الكفر .

والوجه الثاني : يجري على حكم الكفر ، ولم يجب حفظ نسبه ، لا في حقه ولا في حق المدعي ، ولم يمنع منه ما كان في دار الإسلام ، فإن أراد أن يخرج به إلى دار الحرب ، منع منه قبل بلوغه لجواز أن يصف الإسلام ، إذا بلغ ولم يمنع من إخراجه بعد بلوغه إذا أجبر على الكفر .

وإن ادعاه أخا ، ولم يدعيه ولدا ، ردت دعواه إن كان أبوه باقيا ، وكان الأب أحق بالدعوى منه ، وسمعت إن كان ميتا ، ولم يكن لأبيه وارث سواه ، ولا يسمع إن ورثه غيره ، حتى يتفقوا عليه ، ثم إذا سمعت على هذا التفصيل ، وألحق به أخا ، صار مناسبا لجميع من ناسبه ممن علا وسفل من عصبات ، وذوي أرحام ، وأجري عليه في الإسلام ، والكفر ما ذكرناه .

ولو ادعى نسب بالغ مجهول النسب ، لم يثبت عليه رق ، ولا ولاء كانت دعواه

على تصديقه ، فإن أنكر وعدم البينة لم يلحقه نسبه ، وإن صدقه لحق به نسبه بالدعوى ، والتصديق ولهما أربعة أحوال :

أحدها : أن يكونوا مسلمين ، فحفظ نسبهما واجب في الجهتين .

والحال الثانية : أن يكونا كافرين ، فحفظ نسبهما غير واجب في الجهتين ، إلا أن يكونا في الدعوى قد تنازعا إلى حاكم حكم بينهما بلحوق النسب ، فيجب حفظه لتنفيذ الحكم ، وإن لم يجب في حق النسب .

والحال الثالثة : أن يكون مدعيه مسلما ، وهو يقر بالكفر ، فإن كان مولودا على الإسلام امتنع أن يكون ولده كافرا ، وقيل : الآن أنت بتصديقك له على الأبوة مسلم ، وادعاؤك الكفر يجري عليه حكم الردة ، فإن أسلمت وإلا قتلت ، وإن كان الأب من ولادة الشرك ، وأسلم بعد البلوغ ، فاحتمل أن يكون مولودا له قبل إسلامه ، أقر الولد على كفره ، ووجب حفظ نسبه في حق أبيه ، دون حقه .

والحالة الرابعة : أن يكون مدعيه كافرا وهو مسلم ، وليس يمتنع أن يكون للمسلم أب كافر ، ولذلك جاز أن يلحق نسبه بكافر ، ويجري على كل واحد منهما حكم دينه ، ووجب حفظ نسبه في حقه ، وإن لم يجب في حق الأب .

[ ص: 405 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن كانوا مسبيين عليهم رق ، أو أعتقوا فثبت عليهم ولاء ، لم يقبل إلا ببينة على ولادة معروفة قبل السبي ، وهكذا أهل حصن ومن يحمل إلينا منهم " .

قال الماوردي : وصورة هذه المسألة في مسبي من بلاد الشرك استرقه مسلم وأعتقه ، فصار له عليه الولاء ، ثم قدم من بلاد الشرك من ادعى نسبه ، فإن اقترن بدعواه بينة عادلة من المسلمين تشهد له بما ادعاه من النسب على الوجه الجائز في الإسلام ، حكم بها وثبت النسب بينهما سواء كان مدعيه يدعي نسبا أعلى كالأبوة والأخوة ، أو نسبا أسفل كالبنوة .

وإن عدم مدعيه البينة لم يخل حال المدعي ومن عليه رق ، أو ولاء من أربعة أحوال :

أحدها : من أن يصدقاه على النسب ، فيثبت النسب بينهما في الأعلى من الأبوة ، والأسفل من البنوة .

والحالة الثانية : أن ينكراه ، أو يكذباه ، فلا نسب وليس له إحلاف واحد منهما ، أما العتق ، فلأن إقراره لا ينفذ مع إنكار معتقه ، وأما معتقه ، فيلتزم الدعوى على غيره .

والحالة الثالثة : أن ينكره المعتق ، ويصدقه معتقه ، فلا نسب له ، وله إحلاف المعتق بعد تصديق معتقه ، لأنه لو أقر له بالنسب ثبت

والحالة الرابعة : أن يصدقه المعتق ، ويكذبه معتقه ، فلا يخلو مدعي النسب من أحد أمرين : إما أن يدعي نسبا أعلى ، أو نسبا أسفل ، فإن ادعى نسبا أعلى كالأبوة والأخوة ، لم يثبت النسب بينهما مع التصديق ، الأثر وتعليل :

أما الأثر : فأثران أحدهما ما روى الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا إلا ببينة .

والثاني : ما رواه حبيب بن أبي ثابت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في ميراث الحميل ، فاجمعوا أن لا يورث حميل إلا ببينة .

فصار هذا الأثر الثاني إجماعا .

وأما التعليل : فلأن معتقه لما استحق بولائه عليه أن يرثه ، وكان لحوق النسب يدفعه عن الميراث ، لتقديم الميراث بالنسب على الميراث بالولاء ، لم يكن لهما إبطال حق بصفة من ميراث الميتين بإقرار مظنون محتمل .

[ ص: 406 ] فإن قيل : أفليس لو كان له أخ يرثه ؟ فأقر بابن يحجب أخاه عن الميراث ، ثبت نسبه بإقراره ، فما الفرق ؟ قيل الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن الميراث بالولاء نتيجة ملك قد تفرد به بصفة لا يشاركه فيه ، فلم يقبل في دفعه إقرار عن مشارك فيه ، والميراث بالنسب مشترك ، فجاز أن يثبت بإقرار الشريكين فيه ، فهذا حكم النسب الأعلى .

فأما دعوى النسب الأسفل : وهو أن يدعي الحميل أن هذا المعتق ابنه ، فيصدقه على البنوة ويكذبه معتقه ، ففي ثبوت نسبه وجهان :

وقال ابن أبي هريرة قولين :

أحدهما : لا يثبت نسبه مع تكذيب معتقه ، كالنسب الأعلى .

والثاني : يثبت نسبه ، وإن كذبه معتقه ، لانتفاء الضرر عنه : لإدخال ولده في ولاء معتقه الذي لا يدخل فيه أهل النسب الأعلى ، فلذلك لا يثبت الإقرار بالنسب الأسفل ، وإن لم يثبت بالنسب الأعلى .

وسمي حميلا ، لأنه يحمل بنسب مجهول .

فأما قول الشافعي : " فكذا أهل حصن ومن يحمل إلينا منهم ، فإنما أراد به الرد على طائفة ، قالوا إن الحميل إذا كان من بلد كبير لم تقبل دعواه ، لتمكنه من إقامة البينة ، وإن كان من أهل حصن أو دير فتثبت وهما عند الشافعي سواء ، لإطلاق الأثر وعموم التعليل .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أسلم أحد أبوي الطفل أو المعتوه كان مسلما ، لأن الله عز وجل ، أعلى الإسلام على الأديان ، والأعلى أولى أن يكون الحكم له ، مع أنه روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى قولنا ، ويروى عن الحسن وغيره " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، فإن اجتمع إسلام الأبوين ، كان إسلاما لصغار أولادهما معهما يكون للبالغين العقلاء وهذا إجماع ، فأما إذا أسلم أحد الأبوين ، فذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وأكثر الفقهاء إلى أن إسلام كل واحد منهما يكون إسلاما لهم سواء كان المسلم منهما أبا أو أما .

وقال عطاء : يكونون مسلمين بإسلام الأم دون الأب ، لأنه من الأم قطعا ومن الأب ظنا .

وقال مالك : يكون مسلما بإسلام الأب دون الأم ، لرجوعه في النسب إلى أبيه احتجاجا بقوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 43 ] . [ ص: 407 ] والمراد بالآية الملة ، فدل على إلحاقه بملة الأب دون الأم .

ولقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) [ يس : 6 ] . فدل على إضافة الأولاد إلى الآباء ، دون الأمهات .

ودليلنا قول الله تبارك وتعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ الطور : 21 ] . وهم ذرية لكل واحد من الأبوين ، فوجب أن يتبعوا لكل واحد من الأبوين ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أولاد المسلمين معهم في الجنة ، وهم مع كل واحد منهم " فدل على إسلامهم ، ولأن الإسلام حق ، والكفر باطل ، واتباع الحق أولى من اتباع الباطل ، ولأن تعارض البينتين يوجب تغليب أقواهما وأعلاهما ، والإسلام أقوى ، وأعلى من الكفر ، فوجب أن يغلب الإسلام على حكم الكفر ، لقوله تبارك وتعالى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) [ التوبة : 140 ] . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " الإسلام يعلو ولا يعلى " .

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أي ابن أمة أسلم فديته دية المسلمين وليس يعرف له مخالف .

ويدل عليه أن مسلما لو تزوج كافرة كان الولد مسلما ، كذلك إذا أسلم بعد أن تزوجها وفيه انفصال عن دليله .

فأما الجواب عن قوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة [ الزخرف : 43 ] . فإنه قاله على وجه الذم لهم ، فدل على أن الحق لهم في عدولهم عنه وأما الجواب عن قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) ، [ يس : 6 ] . فهو أن الإنذار متوجه إلى الآباء والأمهات ، وإن عبر عنه تغليبا لحكم التذكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية