الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " والذي أسلم النصراني على يديه ليس بمعتق فلا ولاء له " .

[ ص: 84 ] في الولاء قال الماوردي : وهذا هو الثالث المختلف في استحقاق الولاء عليه ، وهو الكافر إذا أسلم على يد رجل لم يثبت عليه في قول الجمهور ولاء لمن أسلم على يديه ، سواء عقل عنه أو لم يعقل .

وحكي عن حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة أن له ولاءه وله الرجوع فيه ما لم يعقل عنه ، فإن عقل عنه أو عن صغار ولده لم يكن له أن يرجع فيه .

وحكي عن أبي يوسف إن اقترن بالإسلام على يده موالاة توارثا وإن لم يقترن به موالاة لم يتوارثا .

وحكي عن عمر بن عبد العزيز والزهري أنه يرثه على الأحوال كلها احتجاجا بما رواه الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلم على يديه رجل فهو مولاه يرثه ويدي عنه .

وبرواية عبد الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال : يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل ، فقال : هو أولى الناس بمحياه ومماته . قالوا : وحق الممات استحقاق الميراث .

وروى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أسلم على يديه رجل فله ولاؤه " .

قالوا : ولأن إنعامه عليه باستنقاذه من الكفر أعظم من إنعامه باستنقاذه من الرق ، فكان بولائه أحق .

ودليل الجمهور على ألا ولاء عليه قول الله تعالى : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ( الأحزاب : 37 ) ، يعني زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالعتق ، فكانت النعمة بالإسلام لله تعالى دون غيره ، وفرق بين النعمة بالإسلام وبين النعمة بالعتق ، فلم تجز التسوية بينهما .

وقال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ( الحجرات : 17 ) فكانت الهداية منه تعالى دون غيره ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وإنما الولاء لمن أعتق . وليس هذا بمعتق ، ولأن إسلامه من نفسه بما علم من صحته ، فلم يكن لمن أسلم على يده تأثير في معتقده ، ولأنه لو كان أخذ [ ص: 85 ] الإسلام على الكافر موجبا لثبوت ولائه عليه ، لكان طلحة والزبير من موالي أبي بكر لإسلامهما على يده ، ولكان المهاجرون والأنصار موالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأولاده من بعده ، وهذا يخرج عن قول الأمة ، فكان مدفوعا بهم .

وقد روى سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة ، وهذا تعليل لاستحقاق الولاء ، فلم يستحق بغيره ، ولأنه لو كان الولاء بأخذ الإسلام مستحقا لوجب إذا أعتق الرجل عبدا نصرانيا ، فأسلم على يد غير معتقه أن يبطل ولاء معتقه ، وإذا أسلم العبد النصراني على يد غير سيده ، ثم أعتقه السيد ألا يكون عليه ولاء لمعتقه ، وهذا مدفوع بالإجماع ، فبطل ما اقتضاه بالإجماع .

وقد روى الأشعث بن سوار عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يباع ، فساوم به ثم تركه فاشتراه رجل فأعتقه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني اشتريت هذا فأعتقته ، فما ترى فيه ؟ قال : أخوك ومولاك . قال : فما ترى في صحبته ؟ قال : " إن شكرك فهو خير له وشر عليك ، وإن كفرك فهو خير لك وشر له ) ، قال : فما ترى في ماله ؟ قال : إن مات ، ولم يدع وارثا ، فلك ماله . فاعتبر ولاءه بعتقه دون إسلامه .

وأما الجواب عما استدلوا به من الأخبار ، ففيها ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنها ضعيفة لا يثبت بها شرع ؛ لأن بعضها رواه مجهول ، وبعضها رواه متروك ، وبعضها مرسل .

والثاني : أنها محمولة على ولاية الإسلام الموجبة للتناصر كما قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ( التوبة : 71 ) ، .

والثالث : أننا نستعمل قوله : فهو مولاه . يريد أي هو ناصره ، وقد صار باتفاقهما في الإسلام وارثا بعد أن لم يكونا باختلاف الدين متوارثين .

وقوله : أحق بمحياه ومماته : أنه أحق بمراعاته في محياه ، والممات .

وأما الجواب عن استدلالهم بإنعامه عليه بالإسلام ، فهو ما ذكر الله تعالى عليه بالإسلام أن النعمة فيه له لا لغيره ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية