الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : ( ومن أعتق سائبة فهو معتق وله الولاء ) .

قال الماوردي : والمعتق سائبة أن يقول السيد لعبده : أنت حر ولا ولاء لي عليك أو يقول له : أنت عتيق سائبة ، فيكون حكمه ألا ولاء عليه ، فلا اختلاف بين الفقهاء أن العتق واقع ، فأما سقوط الولاء فيه ، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أن الولاء ثابت لا يسقط بتسبية واشتراط سقوطه .

وقال مالك : يسقط فيه الولاء اعتبارا بشروطه ؟ واستدلالا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : المسلمون على شروطهم . وبما روى عمر رضي الله عنه قال : " السائبة ليومها " . وفيه تأويلان :

[ ص: 88 ] أحدهما : أن حكمها على ما شرطه في يوم عتقها .

والثاني : أنها ليوم القيامة ؛ لأنه قصد بها الأجر دون الولاء .

وبما روى الشعبي : أن سالما مولى أبي حذيفة أعتقته ليلى بنت يعار زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة سائبة ، فقتل يوم اليمامة ، وخلف بنتا ، ومولاته ليلى زوجة أبي حذيفة ، فدفع أبو بكر وعمر إلى بنته النصف ، وعرض الباقي على مولاته ، فقالت : لا أرجع في شيء من أمر سالم ، فإني جعلته سائبة لله ، فجعل أبو بكر النصف الباقي في سبيل الله .

ودليلنا قول الله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ( المائدة : 103 ) ، فلما امتنع من حكم السائبة في البهائم التي لا يجري عليها حكم العتق ، كان المنع في الآدميين ممن يجري عليه حكم العتق أولى .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب .
وفيه دليلان : أحدهما : أنه اعتبره بالنسب ، والنسب لا يعتبر حكمه بالشرط ، كذلك الولاء .

والثاني : قوله : " ولا يوهب " والسائبة هبة الولاء ، ولأن موالي بريرة باعوها على عائشة رضوان الله عليها ، واشترطوا أن يكون لهم ولاؤها إذا أعتقت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل . كتاب الله أحق وشروطه أوثق ، والولاء لمن أعتق . فأثبت الولاء للمعتق وأبطل أن يكون لغيره .

وروي أن طارقا أعتق عبيدا له سوائب ، وكانوا ستة ، وقيل عشرة فماتوا كلهم بعد موت طارق ، وخلفوا مالا ، فرفع ذلك إلى عمر فقضى به لورثة طارق ، فامتنعوا من أخذه ، فقال عمر : أرجعوه إلى قوم مثلهم ، فأبان بهذا القضاء أن الولاء ثابت في عتق السائبة . وروى قبيصة بن ذؤيب أن أصحاب السوائب شكوا إلى عمر رضي الله عنه ، وقالوا : إما أن تجعل العقل علينا ، والميراث لنا ، وإما ألا يكون لنا ميراث ، ولا علينا عقل ، فقضى عمر لهم بالميراث . وروي مثله عن علي ، وابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم ، ولأن الولاء في العتق كالرجعة في الطلاق ، فلما كان لو طلقها على ألا رجعة له عليها وقع الطلاق ، واستحق الرجعة ، وجب مثله في عتق السائبة أن يقع العتق ، ويستحق الولاء .

فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم . فهو ما وصله به إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ، وهذا منه .

[ ص: 89 ] وأما الجواب عن قول عمر : " السائبة ليومها " ، فهو مجمل لا يثبت به شرع ، وحمله على مقتضى السنة أولى .

وأما حديث سالم ، فقد حكم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بدفع ميراثه إلى مولاته ، فلما امتنعت من ميراثه لم تجبر عليه ؛ لأنه حق لها ، وليس بحق عليها ، فوضعه حيث رأى من الوجوه والمصالح .

التالي السابق


الخدمات العلمية