الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر أن الأجل في الكتابة شرط فأقل ما تصح الكتابة إليه نجمان ، وإن كاتبه على نجم واحد لم تصح ، وإنما كان كذلك لأمور منها ما رواه ابن أبي هريرة في تعليقه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الكتابة على نجمين .

وهذا الخبر إن صح نص يدل على إيجاب الأجل على تقديره بنجمين ، ولأن كل من أجل الكتابة قال : لا تصح إلى أقل من نجمين فصار من إجماع من قال بتأجيلها . وقد غضب عثمان رضي الله عنه على عبده . وقال : " والله لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين " .

لو جازت إلى أقل منهما لاقتصر عليه تضييقا عليه ، فدل على أن النجمين أقصى التضييق .

ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكاتبوا مع اختلافهم في مكاتبة عبيدهم على أقل من نجمين ، قد كوتبت بريرة على تسعة أنجم ، وكاتب ابن عمر عبده على خمسة أنجم ، وكاتبت أم سلمة رضي الله عنها مولاها نبهان على نجمين ، وذلك أقل ما كاتبت الصحابة عليه فصار ذلك منهم إجماعا ، ولأن الإيتاء مما أدى واجب ليستعين به المكاتب فيما بقي ، وذلك لا ينتظم إلا في نجمين يكون أحدهما للأداء والآخر للإيتاء معونة في باقي الأداء ، ولأن اشتقاق الكتابة ، إما أن يكون من الضم والجمع ، وإما أن يكون من كتابة الخط .

فإن كانت مشتقة من الضم والجمع . فأقل ما يكون به الضم والاجتماع اثنان . فافتقرت الكتابة إلى نجمين . ينضم أحدهما إلى الآخر . وإن كانت من كتابة الخط فأقل ما تتقيد به خط الكتابة حرفان ، فافتقرت الكتابة المؤجلة إلى نجمين .

فإن قيل : فقد ينعقد الخط بحرف واحد وهو لا .

قيل : لا حرفان : لام وألف .

قال الشاعر :


تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف

فإن قيل : فإذا كان أقل ما يتقيد به الخط حرفين ، فمن شرطهما أن يكونا مختلفين [ ص: 150 ] من جنسين . فهلا جعلتم اختلاف النجمين في القدر والتجانس شرطا اعتبارا بتقييد الخط ، كما جعلتم أقل الكتابة نجمين اعتبارا بتقييد الخط .

قيل : عن هذا جوابان :

أحدهما : أنه ليس يلزم تغاير أجناس الحرفين في الخط ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لست من دد ولا دد مني ، أي لست من اللعب ولا اللعب مني ، وهما حرفان مجانسان يتقيد بهما الخط كذلك نجما الكتابة .

والثاني : أنه لو لزم هذا في أقل ما يتقيد به الخط أن يكون متغاير الأجناس فنجما الكتابة بمثابته ؛ لأنه لا يتضرر النجمان إلا متغايرين وإن تساوى زمانهما ؛ لأنه إذا كان كل واحد من النجمين شهرا فقد اختلفا من وجهين :

أحدهما : أن الأجل مستحق من وقت العقد فيـكون أول النجمين لهما بعد شهر والآخر بعد شهرين .

والثاني : أن محلها مختلف ؛ لأن حلول أحدهما في شهر وحلول الآخر في غيره ، فاختلفا مع تساويهما من هذين الوجهين فثبت ما قلنا من اعتبار النجمين ، وألا فرق بين تساويهما واختلافهما وبين طولهما وقصرهما .

أما أكثر نجوم الكتابة فلا ينحصر بعدد ويجوز أن يكاتبه إلى مائة نجم ، وأكثر .

فإن قيل : فإذا كان ما لم يتجاوزه الصحابة رضي الله عنهم من أقل النجوم شرطا في تقييد الأقل ، فهلا جعلتم ما لم يتجاوزه الصحابة من أقل النجم في تقييد الأكثر شرطا في تقييد الأكثر ، وأكثر ما كاتبت الصحابة عليه تسعة أنجم في بريرة ، كما أن أقل ما كاتبوا عليه نجمان في نبهان ، فلزمكم أن تقدروا أكثره بتسعة أنجم ، كما قدرتم أقله بنجمين أو تسقطوا تقدير أقله بنجمين ، كما أسقطتم تقدير أكثره بتسعة أنجم .

قيل : لا يلزم اعتبار الأقل بالأكثر لوقوع الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن النجوم زمان فتقدر أقل النجوم ؛ لأن أقل الزمان محدود ولم يتقدر أكثر النجوم ؛ لأن أكثر الزمان غير محدود .

والثاني : أن قلة النجوم مفقود من جهة السادة فجاز أن يعتبر فيه فعل السادة من [ ص: 151 ] الصحابة ، وكثرة النجوم مفقود من جهة العبيد فلم يعتبر فيه فعل عبيد الصحابة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية