صفحة جزء
[ ص: 168 ] باب

المزارعة والمخابرة

قال بعض الأصحاب : هما بمعنى ، والصحيح وظاهر نص الشافعي - رضي الله عنه - : أنهما عقدان مختلفان . فالمخابرة : هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل . والمزارعة مثلها ، إلا أن البذر من المالك . وقد يقال : المخابرة : اكتراء الأرض [ ببعض ما يخرج منها ] . والمزارعة : اكتراء العامل لزرع الأرض ببعض ما يخرج منها . والمعنى لا يختلف .

قلت : هذا الذي صححه الإمام الرافعي ، هو الصواب . وأما قول صاحب البيان : قال أكثر أصحابنا : هما بمعنى ، فلا يوافق عليه ، فنبهت عليه لئلا يغتر به . والله أعلم .

والمخابرة والمزارعة باطلتان ، وقال ابن سريج : تجوز المزارعة .

قلت : قد قال بجواز المزارعة والمخابرة من كبار أصحابنا أيضا ، ابن خزيمة ، وابن المنذر ، والخطابي وصنف فيها ابن خزيمة جزءا ، وبين فيه علل الأحاديث الواردة بالنهي عنها ، وجمع بين أحاديث الباب ، ثم تابعه الخطابي وقال : ضعف أحمد بن حنبل حديث النهي ، وقال : هو مضطرب كثير الألوان . قال الخطابي : وأبطلها مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، - رضي الله عنهم - ، لأنهم لم يقفوا على علته ، قال : فالمزارعة جائزة ، وهي عمل المسلمين في جميع الأمصار ، لا يبطل العمل بها أحد . هذا كلام الخطابي . والمختار جواز المزارعة والمخابرة ، وتأويل الأحاديث على ما إذا شرط [ ص: 169 ] أحدهما زرع قطعة معينة ، والآخر أخرى ، والمعروف في المذهب ، إبطالهما ، وعليه تفريع مسائل الباب . والله أعلم .

فمتى أفردت الأرض لمخابرة أو مزارعة ، بطل العقد . فإن كان البذر للمالك ، فالغلة له ، وللعامل أجرة مثل عمله ، وأجرة البقر والآلات إن كانت له . وإن كان البذر للعامل ، فالغلة له ، ولمالك الأرض عليه أجرة مثلها . وإن كان لهما ، فالغلة لهما ، ولكل واحد على الآخر أجرة مثل ما انصرف من منافعه إلى حصة صاحبه . وإذا أرادا أن يكون الزرع بينهما على وجه مشروع ، بحيث لا يرجع أحدهما على الآخر بشيء ، نظر ، إن كان البذر بينهما ، والأرض لأحدهما ، والعمل والآلات للآخر ، فلهما ثلاث طرق .

أحدها : قاله الشافعي - رضي الله عنه - : يعير صاحب الأرض للعامل نصفها ، ويتبرع العامل بمنفعة بدنه وآلاته لأنه مما يختص صاحب الأرض . الثاني : قاله المزني : يكري صاحب الأرض للعامل نصفها بدينار مثلا ، ويكتري العامل ليعمل على نصيبه بنفسه وآلاته بدينار ، ويتقاصان .

الثالث : قاله الأصحاب : يكريه نصف أرضه بنصف منافع العامل وآلاته ، وهذا أحوطها . وإن كان البذر لأحدهما ، فإن كان لصاحب الأرض ، أقرض نصفه للعامل وأكراه نصف الأرض بنصف عمله ونصف منافع آلاته ، ولا شيء لأحدهما على الآخر إلا رد العوض . وإن شاء استأجر العامل بنصف البذر ، ليزرع له [ ص: 170 ] النصف الآخر وأعاره نصف الأرض ، وإن شاء استأجره بنصف البذر ونصف منفعة تلك الأرض ليزرع باقي البذر في باقي الأرض . وإن كان البذر للعامل ، فإن شاء أقرض نصفه لصاحب الأرض واكترى منه نصفها بنصف عمله وعمل آلاته ، وإن شاء اكترى نصف الأرض بنصف البذر وتبرع بعمله ومنافع آلاته ، وإن شاء اكترى منه نصف الأرض بنصف البذر ونصف عمله ومنافع آلاته .

ولا بد في هذه الإجارات من رعاية الشرائط ، كرؤية الأرض والآلات ، وتقدير المدة وغيرها . هذا كله إذا أفردت الأرض بالعقد . أما إذا كان بين النخيل بياض ، فتجوز المزارعة عليه مع المساقاة على النخيل ، ويشترط فيه اتحاد العامل ، فلا يجوز أن يساقي واحدا ، ويزارع آخر ، ويشترط أيضا تعذر إفراد النخيل بالسقي ، والأرض بالعمارة ، لانتفاع النخل بسقي الأرض وتقليبها ، فإن أمكن الإفراد ، لم تجز المزارعة . واختلفوا في اعتبار أمور .

أحدها : اتحاد الصفقة ، فلفظ المعاملة ، يشمل المزارعة والمساقاة . فلو قال : عاملتك على هذا النخيل والبياض بالنصف ، كفى . وأما لفظ المساقاة والمزارعة ، فلا يغني أحدهما عن الآخر ، بل يساقي على النخيل ، ويزارع على البياض ، وحينئذ إن قدم المساقاة ، نظر ، إن أتى بهما على الاتصال ، فقد اتحدت الصفقة ووجد الشرط ، وإن فصل بينهما ، فقيل : تصح المزارعة ، لحصولهما لشخص . والأصح : المنع ، لأنها تبع ، فلا تفرد كالأجنبي . وإن قدم المزارعة ، فسدت على الصحيح ، لأنها تابعة . وقيل : تنعقد موقوفة . فإن ساقاه بعدها ، بانت صحتها ، وإلا ، فلا .

الثاني : لو شرط للعامل نصف الثمر ، وربع الزرع ، جاز على الأصح . وقيل : يشترط التساوي ، لأن التفضيل يزيل التبعية .

الثالث : لو كثر البياض المتخلل مع عسر الإفراد ، فقيل : يبطل ، لأن الأكثر [ ص: 171 ] متبوع لا تابع . والأصح : الجواز ، للحاجة . ثم النظر في الكثرة إلى زيادة النماء ، أم إلى مساحة البياض ومغارس الشجر ؟ وجهان .

قلت : أصحهما : الثاني . والله أعلم .

الرابع : لو شرطا كون البذر من العامل فهي مخابرة ، فقيل : تجوز تبعا للمساقاة كالمزارعة . والأصح : المنع ، لأن الحديث ورد في المزارعة تبعا في قصة خيبر ، دون المخابرة ، ولأن المزارعة أشبه بالمساقاة ، لأنه لا يتوظف على العامل فيهما إلا العمل . فلو شرط أن يكون البذر من المالك والبقر من العامل ، أو عكسه ، قال أبو عاصم العبادي : فيه وجهان . أصحهما : الجواز إذا شرط البذر على المالك ، لأنه الأصل ، فكأنه اكترى العامل وبقره ، قال : فإن جوزنا فيما إذا شرط البقر على [ المالك والبذر على ] العامل ، نظر ، فإن شرط التبن والحب بينهما ، جاز ، وكذا لو شرط الحب بينهما والتبن لأحدهما لاشتراكهما في المقصود . فإن شرط التبن لصاحب الثور وهو مالك الأرض ، وشرط الحب للآخر ، لم يجز ، لأن المالك هو الأصل ، فلا يمنع المقصود . وإن شرطا التبن لصاحب البذر وهو العامل ، فوجهان . وقيل : لا يجوز شرط الحب لأحدهما والتبن للآخر أصلا . واعلم أنهم أطلقوا القول في المخابرة بوجوب أجرة مثل الأرض ، لكن في فتاوى " القفال " و " التهذيب " وغيرهما : أنه لو دفع أرضا إلى رجل ليغرس أو يبني أو يزرع فيها من عنده على أن يكون بينهما مناصفة ، فالحاصل للعامل وفيما يلزمه من أجرة الأرض وجهان . أحدهما : نصفها ، لأنه غرس نصف الغرس لصاحب الأرض بإذنه ، فقد رضي ببطلان منفعة النصف . وأصحهما : جميعها ، لأنه إنما رضي ليحصل له نصف [ ص: 172 ] الغراس ، فإذا إطلاقهم في المخابرة تفريع على الأصح . ثم العامل يكلف نقل البناء والغراس إن لم تنقص قيمتهما . وإن نقصت ، لم يقلع مجانا ، للإذن ، بل يتخير مالك الأرض فيهما تخير المعير ، والزرع يبقى إلى الحصاد . ولو زرع العامل البياض بين النخيل من غير إذن ، قلع زرعه مجانا . وإذا لم نجوز المساقاة على ما سوى النخيل والعنب من الشجر المثمر منفردا ، ففي جوازها تبعا للمساقاة كالمزارعة وجهان .

قلت : أصحهما : الجواز . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية