صفحة جزء
القسم الثاني : أرض بلاد الكفار ، ولها ثلاثة أحوال . أحدها : أن تكون معمورة ، فلا مدخل للإحياء فيها ، بل هي كسائر أموالهم فإذا استولينا عليها بقتال أو غيره ، لم يخف حكمه .

الحال الثاني : أن لا تكون معمورة في الحال ولا من قبل ، فيتملكها الكفار بالإحياء . وأما المسلمون ، فينظر ، إن كان مواتا لا يذبون المسلمين عنه ، فلهم تملكه بالإحياء ، ولا يملك بالاستيلاء ، لأنه غير مملوك لهم حتى يملك عليهم . وإن ذبوا عنه المسلمين ، لم يملك بالإحياء كالمعمور من بلادهم . فإن استولينا عليه ، ففيه أوجه .

أصحها : أنه يفيد اختصاصا كاختصاص المتحجر ، لأن الاستيلاء أبلغ منه . وعلى هذا فسيأتي إن شاء الله تعالى خلاف في أن التحجر [ هل ] يفيد جواز البيع ؟ إن قلنا : نعم ، فهو غنيمة كالمعمور . وإن قلنا : لا ، وهو الأصح ، فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه ، وأهل الخمس أحق بإحياء خمسه . فإن أعرض الغانمون عن إحيائه ، فأهل الخمس أحق به . ولو أعرض بعض الغانمين ، فالباقون أحق . وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعا ، ملكه من أحياه من المسلمين .

قلت : في تصور إعراض اليتامى والمساكين وابن السبيل ، إشكال ، فيصور في اليتامى أن أولياءهم لم يروا لهم حظا في الإحياء ، ونحوه في الباقين . والله أعلم .

والوجه الثاني : أنهم يملكونه بالاستيلاء كالمعمور .

و [ الوجه ] الثالث : لا يفيد ملكا ولا اختصاصا ، بل هو كموات دار الإسلام ، من أحياه ملكه . [ ص: 281 ] الحال الثالث : أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة ، فإن عرف مالكها ، فكالمعمورة ، وإلا ، ففيه طريقة الخلاف وطريقة ابن سريج السابقتان في القسم الأول .

فرع

إذا فتحنا بلدة صلحا على أن تكون لنا ويسكنوا بجزية ، فالمعمور منها فيء ، ومواتها الذي كانوا يذبون عنه ، هل يكون متحجرا لأهل الفيء ؟ وجهان . أصحهما : نعم . فعلى هذا ، هو فيء في الحال ، أم يحبسه الإمام لهم ؟ وجهان . أصحهما : الثاني ، وإن صالحناهم على أن تكون البلدة لهم ، فالمعمور لهم ، والموات يختصون بإحيائه تبعا للمعمور ، وعن القاضي أبي حامد وصاحب التقريب : أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح ، والأول أصح .

فرع

قال البغوي : البيع التي للنصارى في دار الإسلام ، لا تملك عليهم . فإن فنوا ، فهو كما لو مات ذمي ولا وارث له ، فتكون فيئا .

فرع

حريم المعمور لا يملك بالإحياء ، لأن مالك المعمور يستحق مرافقه ، وهل نقول : إنه يملك تلك المواضع ؟ وجهان . أحدهما : لا ، لأن الملك بالإحياء ولم يحيها ، [ ص: 282 ] وأصحهما : نعم ، كما يملك عرصة الدار ببناء الدار ، ولأن الإحياء تارة يكون بجعله معمورا ، وتارة بجعله تبعا للمعمور . ولو باع حريم ملكه دون الملك ، لم يصح ، قاله أبو عاصم ، كما لو باع شرب الأرض وحده . قال : ولو حفر اثنان بئرا على أن يكون نفس البئر لأحدهما وحريمها للآخر ، لم يصح وكان الحريم لصاحب البئر ، وللآخر أجرة عمله .

فرع

في بيان الحريم

وهو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع ، كالطريق ومسيل الماء ونحوهما ، وفيه صور .

إحداها : ذكرنا في الحال الثالث : إذا صالحنا الكفار على بلدة ، لم يجز إحياء مواتها الذي يذبون عنه على الأصح ، فهو من حريم تلك البلدة ومرافقها . الثانية : حريم القرى المحياة : ما حولها من مجتمع أهل النادي ، ومرتكض الخيل ، ومناخ الإبل ، ومطرح الرماد والسماد ، وسائر ما يعد من مرافقها . وأما مرعى البهائم ، فقال الإمام : إن بعد عن القرية ، لم يكن من حريمها . وإن قرب ولم يستقل مرعى ، ولكن كانت البهائم ترعى فيه عند الخوف من الإبعاد ، فعن الشيخ أبي علي ، خلاف فيه ، والأصح عند الإمام : أنه ليس بحريم . وأما ما يستقل مرعى وهو قريب ، فينبغي أن يقطع بأنه حريم . وقال البغوي : مرعى البهائم حريم للقرية مطلقا .

[ ص: 283 ] فرع

المحتطب كالمرعى .

الثالثة : حريم الدار في الموات : مطرح التراب والرماد والكناسات والثلج ، والممر في الصوب الذي فتح إليه الباب ، وليس المراد منه استحقاق الممر في قبالة الباب على امتداد الموات ، بل يجوز لغيره إحياء ما في قبالة الباب إذا أبقي الممر له ، فإن احتاج إلى انعطاف وازورار ، فعل .

فرع

عد جماعة منهم ابن كج فناء الدار من حريمها . وقال ابن الصباغ : عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم . فلو أراد محي أن يبني بجنبها ، لم يلزمه أن يبعد عن فنائها ، لكن يمنع مما يضر الحيطان كحفر بئر بقربها .

الرابعة : البئر المحفورة في الموات ، حريمها الموضع الذي يقف فيه النازح ، وموضع الدولاب ومتردد البهيمة إن كان الاستقاء بهما ، ومصب الماء ، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزروع من حوض ونحوه ، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه ، وكل ذلك غير محدود ، وإنما هو بحسب الحاجة ، كذا قاله الشافعي والأصحاب - رضي الله عنهم - . وفي وجه : حريم البئر : قدر عمقها من كل جانب ، ولم ير الشافعي - رضي الله عنه - التحديد ، وحمل اختلاف روايات الحديث في التحديد ، على اختلاف القدر المحتاج إليه . وبهذا يقاس حريم النهر المحفور في الموات . وأما القناة فآبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم ، فحريمها : القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها ، أو خيف منه انهيار وانكباس ، ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها .

[ ص: 284 ] وفي وجه : أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها ، ولا يمنع من الحفر إذا جاوزه وإن نقص الماء ، وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد ومن تابعه . والقائلون به ، قالوا : لو جاء آخر وتنحى عن المواضع المعدودة حريما ، وحفر بئرا ينقص ماء الأول ، لم يمنع منه ، وهو خارج عن حريم البئر . والأصح : أنه ليس لغيره الحفر حيث ينقص ماءها ، كما ليس لغيره التصرف قريبا من بنائه بما يضر به ، بخلاف ما إذا حفر بئرا في ملكه ، فحفر جاره بئرا في ملكه فنقص ماء الأول ، فإنه يجوز . قال ابن الصباغ : والفرق أن الحفر في الموات ابتداء تملك ، فلا يمكن منه إذا تضرر الغير ، وهنا كل واحد متصرف في ملكه . وعلى هذا ، فذلك الموضع داخل في حريم البئر أيضا .

واعلم أن ما حكمنا بكونه حريما ، فذلك إذا انتهى الموات إليه . فإن كان هناك ملك قبل تمام حد الحريم ، فالحريم إلى حيث ينتهي الموات .

فرع

كل ما ذكرناه في حريم الأملاك ، مفروض فيما إذا كان الملك محفوفا بالموات ، أو متاخما له من بعض الجوانب . فأما الدار الملاصقة للدار ، فلا حريم لها ، لأن الأملاك متعارضة ، وليس جعل موضع حريما لدار ، أولى من جعله حريما لأخرى ، وكل واحد من الملاك يتصرف في ملكه على العادة ، ولا ضمان عليه إن أفضى إلى تلف . فإن تعدى ، ضمن . والقول في تصرف المالكين المتجاوزين بما يجوز وما لا يجوز ، وبماذا يتعلق الضمان ، منه ما سبق في كتاب الصلح ، ومنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في خلال الديات .

[ ص: 285 ] فرع

لو اتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما ، أو إصطبلا ، أو طاحونة ، أو حانوته في صف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة ، ففيه وجهان . أحدهما : يمنع ، للإضرار . وأصحهما : الجواز ، لأنه متصرف في خالص ملكه ، وفي منعه إضرار به . وهذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده ، فإن فعل ما الغالب فيه ظهور الخلل في حيطان الجار ، فالأصح : المنع ، وذلك مثل أن يدق الشيء في داره دقا عنيفا تتزعزع منه الحيطان ، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار .

ولو اتخذ داره مدبغة ، أو حانوته مخبزة حيث لا يعتاد ، فإن قلنا : لا يمنع في الصورة السابقة ، فهنا أولى ، وإلا ففيه تردد للشيخ أبي محمد . واختار الروياني في كل هذا ، أن يجتهد الحاكم فيها ، ويمنع إن ظهر له التعنت وقصد الفساد . قال : وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر .

فرع

لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر جاره ، فهو مكروه ، لكن لا يمنع منه ، ولا ضمان عليه بسببه على الصحيح ، وخالف فيه القفال .

فرع

لا يمنع من إحياء ما وراء الحريم ، قرب ، أم بعد ، وسواء أحياه أهل العمران ، أم غيرهم .

[ ص: 286 ] فرع

موات الحرم يملك بالإحياء ، كما أن معموره يملك بالبيع والهبة . وهل تملك أرض عرفات بالإحياء كسائر البقاع ، أم لا ، لتعلق حق الوقوف بها ؟ وجهان . إن قلنا : تملك ، ففي بقاء حق الوقوف فيما ملك وجهان . إن قلنا : يبقى ، فذاك مع اتساع الباقي ، أم بشرط ضيقه على الحجيج ؟ وجهان . واختار الغزالي ، الفرق بين أن يضيق الموقف فيمنع ، أو ، لا ، فلا .

والأصح : المنع مطلقا ، وهو أشبه بالمذهب ، وبه قطع المتولي ، وشبهها بما تعلق به حق المسلمين عموما وخصوصا ، كالمساجد والطرق والرباطات ، ومصلى العيد خارج البلد .

قلت : وينبغي أن يكون الحكم في أرض منى ومزدلفة ، كعرفات ، لوجود المعنى . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية