صفحة جزء
الطرف الثاني : في المياه ، وهي قسمان :

أحدهما : المباحة النابعة في موضع لا يختص بأحد ، ولا صنع للآدميين في إنباطه وإجرائه كالفرات وجيحون وسائر أودية العالم والعيون في الجبال وسيول الأمطار ، فالناس فيها سواء ، فإن حضر اثنان فصاعدا ، أخذ كل ما شاء . فإن قل الماء أو ضاق المشرع ، قدم السابق . فإن جاءا معا ، أقرع . وإن أراد واحد السقي وهناك محتاج للشرب ، فالشارب أولى . قاله المتولي ، ومن أخذ منه شيئا في إناء أو جعله في حوض ، ملكه ولم يكن لغيره مزاحمته فيه ، كما لو احتطب . وفي " النهاية " [ ص: 305 ] وجه : أنه لا يملكه ، لكنه أولى به من غيره . والصحيح : الأول ، وبه قطع الجمهور . وإن دخل شيء منه ملك إنسان بسيل ، فليس لغيره أخذه ما دام فيه ، لامتناع دخول ملكه بغير إذنه . فلو فعل ، فهل يملكه ، أم للمالك استرداده ؟ وجهان . أصحهما الأول . فإذا خرج من أرضه ، أخذه من شاء .

فرع

إذا أراد قوم سقي أرضيهم من مثل هذا الماء ، فإن كان النهر عظيما يفي بالجميع ، سقى من شاء متى شاء . وإن كان صغيرا ، أو كان الماء يجري من النهر العظيم في ساقية غير مملوكة ، بأن انخرقت بنفسها ، سقى الأول أرضه ، ثم يرسله إلى الثاني ، ثم الثاني إلى الثالث . وكم يحبس الماء في أرضه ؟ وجهان ، الذي عليه الجمهور : أنه يحبسه حتى يبلغ الكعبين .

والثاني : يرجع في قدر السقي إلى العادة والحاجة . وقد قال الماوردي : ليس التقدير بالكعبين في كل الأزمان والبلدان ، لأنه مقدر بالحاجة ، والحاجة تختلف باختلاف الأرض ، وباختلاف ما فيها [ من ] زرع وشجر ، وبوقت الزراعة ، ووقت السقي . وحكي وجه عن الداركي : أن الأعلى لا يقدم على الأسفل ، لكن يسقون بالحصص ، وهذا غريب باطل . ولو كانت أرض الأعلى بعضها مرتفعا ، وبعضها منخفضا ، ولو سقيا معا لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق ، أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه .

قلت : طريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين ، ثم يسده ، ثم يسقي المرتفع . والله أعلم .

[ ص: 306 ] وإذا سقى الأول ، ثم احتاج إلى السقي مرة أخرى ، مكن منه على الصحيح فلو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان ، أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يمينا وشمالا ، فهل يقرع ، أو يقسم بينهما ، أو يقدم الإمام من يراه ؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها العبادي .

قلت : أصحها : يقرع . والله أعلم .

ولو أراد رجل إحياء موات وسقيه من هذا النهر ، نظر ، إن ضيق على السابقين ، منع ، لأنهم استحقوا أرضهم بمرافقها ، والماء من أعظم مرافقها ، وإلا ، فلا منع .

فرع

عمارة حافات هذه الأنهار ، من وظائف بيت المال .

فرع

يجوز أن يبني عليها من شاء قنطرة لعبور الناس إن كان الموضع مواتا . وأما [ ما ] بين العمران ، فهو كحفر البئر في الشارع لمصلحة المسلمين . ويجوز بناء الرحى عليها إن كان الموضع ملكا له أو مواتا محضا . وإن كان بين الأرض المملوكة ، وتضرر الملاك ، لم يجز ، وإلا ، فوجهان . أحدهما : المنع كالتصرف في سائر مرافق العمارات . وأصحهما : الجواز ، كإشراع الجناح في السكة النافذة .

[ ص: 307 ] فصل

هذا الذي سبق ، إذا لم تكن الأنهار والسواقي مملوكة . أما إذا كانت مملوكة ، بأن حفر نهرا يدخل فيه الماء من الوادي العظيم ، أو من النهر المنخرق منه ، فالماء باق على إباحته ، لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل ملكه ، فليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين . وأما للشرب والاستعمال وسقي الدواب ، فقال الشيخ أبو عاصم والمتولي : ليس له المنع ، ومنهم من أطلق أنه لا يدلي أحد فيه دلوا ، ويجوز لغيره أن يحفر فوق نهره نهرا إن لم يضيق عليه . وإن ضيق ، فلا ، فإن اشترك جماعة في الحفر ، اشتركوا في الملك على قدر عملهم ، فإن شرطوا أن يكون النهر بينهم على قدر ملكهم من الأرض ، فليكن عمل كل واحد على قدر أرضه . فإن زاد واحد متطوعا ، فلا شيء له على الباقين . وإن زاد مكرها ، أو شرطوا له عوضا ، رجع عليهم بأجرة ما زاد ، وليس للأعلى حبس الماء على الأسفل ، بخلاف ما إذا لم يكن النهر مملوكا . وإذا اقتسموا الماء بالأيام والساعات ، جاز ، ولكل واحد الرجوع [ متى شاء ] ، لكن لو رجع بعدما استوفى نوبته وقبل أن يستوفي الشريك ، ضمن له أجرة مثل نصيبه من النهر للمدة التي أجرى فيها الماء . وإن اقتسموا الماء نفسه ، فعلى ما سنذكره في القناة المشتركة . ولو أرادوا قسمة النهر وكان عريضا ، جاز ، ولا يجري فيها الإجبار كما في الجدار الحائل . ولو أراد الشركاء الذين أرضهم أسفل توسيع فم النهر ، لئلا يقصر الماء عنهم ، لم يجز إلا برضى الأولين ، لأن تصرف الشريك في المشترك لا يجوز إلا برضى الشريك ، ولأنهم قد يتضررون بكثرة الماء . وكذا لا يجوز للأولين تضييق فم النهر إلا برضى الآخرين ، وليس لأحد منهم بناء قنطرة أو رحى عليه ، ولا غرس شجرة على حافته إلا برضى [ ص: 308 ] الشركاء . ولو أراد أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى أرضه ، أو تأخيره ، لم يجز ، بخلاف ما لو قدم باب داره إلى رأس السكة المنسدة ، لأنه يتصرف هناك في الجدار المملوك ، وهنا في الحافة المشتركة . ولو كان لأحدهم ماء في أعلى النهر ، فأجراه في النهر المشترك برضى الشركاء ليأخذه من الأسفل ويسقي به أرضه ، فلهم الرجوع متى شاءوا ، لأنه عارية ، وتنقية هذا النهر وعمارته يقوم بها الشركاء بحسب الملك . وهل على كل واحد عمارة الموضع المتسفل عن أرضه ؟ وجهان . أحدهما : لا ، وبه قطع ابن الصباغ ، لأن المنفعة فيه للباقين . والثاني : نعم ، وهو الأصح عند العبادي ، لاشتراكهم وانتفاعهم به .

فرع

كل أرض أمكن سقيها من هذا النهر ، إذا رأينا لها ساقية منه ولم نجد لها شربا من موضع آخر ، حكمنا عند التنازع بأن لها شربا منه . ولو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصبائهم ، فهل يجعل على قدر الأرضين لأن الظاهر أن الشركة بحسب الملك ، أم بالسوية لأنه في أيديهم ؟ وجهان ، وبالأول قال الإصطخري رحمه الله تعالى .

قلت : هو أصحهما . والله أعلم .

فرع

لو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون ، ولم ندر أنه حفر أم انخرق ، حكمنا بأنه [ ص: 309 ] مملوك ، لأنهم أصحاب يد وانتفاع ، فلا يقدم بعضهم على بعض . وأكثر هذه المسائل يشتمل عليها كتاب " المياه " للعبادي رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية