صفحة جزء
فصل

ويشتمل الكتاب على بابين أحدهما : في أركان الهبة ، وشرط لزومها . أما أركانها فأربعة .

[ الركن ] الأول والثاني : العاقدان ، وأمرهما واضح ، الركن الثالث : الصيغة ، أما الهبة فلا بد فيها من الإيجاب ، والقبول باللفظ ، كالبيع وسائر التمليكات . وأما الهدية ، ففيها وجهان أحدهما : يشترط فيها الإيجاب والقبول كالبيع والوصية ، وهذا ظاهر كلام الشيخ أبي حامد ، والمتلقين عنه ، والثاني : لا حاجة فيها إلى إيجاب وقبول باللفظ ، بل يكفي القبض ويملك به ، وهذا هو الصحيح الذي عليه قرار المذهب ونقله الأثبات من متأخري الأصحاب ، وبه قطع المتولي والبغوي ، واعتمده الروياني وغيرهم ، واحتجوا بأن الهدايا كانت [ ص: 366 ] تحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقبلها ، ولا لفظ هناك ، وعلى ذلك جرى الناس في الأعصار ، ولذلك كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم .

فإن قيل : هذا كان إباحة لا هدية وتمليكا ، فجوابه أنه لو كان إباحة لما تصرفوا فيه تصرف الملاك ، ومعلوم أن ما قبله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتصرف فيه ويملكه غيره ، ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الإيجاب ، والقبول على الأمر المشعر بالرضا دون اللفظ ، ويقال : الإشعار بالرضا قد يكون لفظا ، وقد يكون فعلا .

فرع

الصدقة كالهدية بلا فرق فيما ذكرناه ، وسواء فيما ذكرناه في الهدية الأطعمة وغيرها .

فرع

في مسائل تتعلق بما سبق

إحداها : حيث اعتبرنا الإيجاب ، والقبول ، لا يجوز التعليق على شرط ، ولا التوقيت على المذهب ، وفيهما كلام سنذكره في العمرى - إن شاء الله تعالى - وكذلك لا يجوز تأخير القبول عن الإيجاب ، بل يشترط التواصل المعتاد كالبيع ، وعن ابن سريج جواز تأخير القبول كما في الوصية ، وهذا الخلاف حكاه كثيرون في الهبة ، وخصه المتولي بالهدية ، وجزم بمنع التأخير في الهبة ، والقياس التسوية بينهما . ثم في الهدايا التي يبعث بها [ من ] موضع إلى موضع ، وإن اعتبرنا اللفظ ، والقبول على الفور ، فأما أن يوكل الرسول ليوجب ، ويقبل المبعوث إليه ، وإما أن يوجب المهدي ويقبل المهدى إليه عند الوصول إليه .

[ ص: 367 ] الثانية : إذا كانت الهبة لمن ليس له أهلية القبول ، نظر ، إن كان الواهب أجنبيا قبل له من يلي أمره من ولي ، ووصي ، وقيم ، وإن كان الواهب ممن يلي أمره ، فإن كان غير الأب والجد ، قبل له الحاكم ، أو نائبه ، وإن كان أبا أو جدا تولى الطرفين . وهل يحتاج إلى لفظي الإيجاب والقبول ، أم يكفي أحدهما ؟ وجهان كما سبق في البيع ، قال الإمام : وموضع الوجهين في القبول ، ما إذا أتى بلفظ مستقل كقوله : اشتريت لطفلي ، أو انهبت له كذا . أما قوله : قبلت البيع ، والهبة ، فلا يمكن الاقتصار عليه بحال .

فرع

لا اعتبار بقبول متعهد الطفل الذي لا ولاية له عليه .

الثالثة : إذا وهب لعبد غيره ، فالمعتبر قبول العبد ، وفي افتقاره إلى إذن سيده خلاف سبق . الرابعة : وهب له شيئا فقبل نصفه ، أو وهب له عبدين ، فقبل أحدهما ، ففي صحته وجهان ، والفرق بينه وبين البيع ، أن البيع معاوضة . الخامسة : غرس أشجارا وقال عند الغراس : أغرسه لابني ، لم يصر للابن ، ولو قال : جعلته لابني وهو صغير صار للابن ، لأن هبته له لا تقتضي قبولا بخلاف ما لو جعله لبالغ ، كذا قاله الشيخ أبو عاصم ، وهو ملتفت إلى الانعقاد بالكنايات ، وإلى أن هبة الأب لابنه الصغير يكفي فيها أحد الشقين .

السادسة : لو ختن ابنه واتخذ دعوة ، فحملت إليه هدايا ، ولم يسم أصحابها الأب ولا الابن ، فهل تكون الهدية ملكا للأب ، أم للابن ؟ فيه وجهان .

[ ص: 368 ] قلت : قطع القاضي حسين في " الفتاوى " بأنه للابن ، وأنه يجب على الأب أن يقبلها لولده ، فإن لم يقبل أثم ، قال : وكذا وصي وقيم ، يقبل الهدية ، والوصية للصغير . قال : فإن لم يقبل الوصي الوصية والهدية ، أثم ، وانعزل لتركه النظر ، وفي فتاوى القاضي : أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال : تكون ملكا للأب ، لأن الناس يقصدون التقرب إليه ، وهذا أقوى ، وأصح . - والله أعلم - .

السابعة : بعث إليه هدية في ظرف ، والعادة في مثلها رد الظرف ، لم يكن الظرف هدية ، فإن كان العادة أن لا يرد كقوصرة التمر ، فالظرف هدية أيضا ، وقد يميز القسمان بكونه مشدودا فيه ، وغير مشدود ، وإذا لم يكن الظرف هدية ، كان أمانة في يد المهدى إليه ، وليس له استعماله في غير الهدية . وأما فيها ، فإن اقتضت العادة تفريغه ، لزم تفريغه . وإن اقتضت التناول منه ، جاز التناول منه ، قال البغوي : ويكون عارية .

الثامنة : بعث كتابا إلى حاضر أو غائب ، وكتب فيه أن اكتب الجواب على ظهره ، لزمه رده ، وليس له التصرف فيه ، وإلا ، فهو هدية يملكها المكتوب إليه ، قاله المتولي . وقال غيره : يبقى على ملك الكاتب ، وللمكتوب إليه الانتفاع به على سبيل الإباحة .

قلت : هذا الثاني حكاه صاحب " البيان " عن حكاية القاضي أبي الطيب عن بعض الأصحاب ، والأول أصح - والله أعلم - .

التاسعة : أعطاه درهما وقال : ادخل به الحمام ، أو دراهم وقال : اشتر بها لنفسك عمامة ونحو ذلك ، ففي فتاوى القفال : أنه إن قال ذلك على سبيل التبسط المعتاد ، ملكه وتصرف [ فيه ] كيف شاء . وإن كان غرضه تحصيل [ ص: 369 ] ما عينه لما رأى به من الشعث ، والوسخ ، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس ، لم يجز صرفه إلى غير ما عينه .

قلت : وقال القاضي حسين في " الفتاوى " : وهل يتعين ؟ يحتمل وجهين . وقال : ولو طلب الشاهد مركوبا ليركبه في أداء الشهادة ، فأعطاه دراهم ليصرفها إلى مركوب ، هل له صرفها إلى جهة أخرى ؟ وجهان . الصحيح المختار ، ما قاله القفال . قال القاضي : ولو قال : وهبتك هذه الدراهم بشرط أنك تشتري بها خبزا لتأكله ، لم تصح الهبة ، لأنه لم يطلق له التصرف . والله أعلم .

العاشرة : سئل الشيخ أبو زيد - رحمه الله تعالى - عن رجل مات أبوه ، فبعث إليه رجل ثوبا ليكفنه فيه ، هل يملكه حتى يمسكه ، ويكفنه في غيره ؟ فقال : إن كان الميت ممن يتبرك بتكفينه لفقه وورع ، فلا ، ولو كفنه في غيره وجب رده إلى مالكه .

الحادية عشرة : في فتاوى الغزالي : أن خادم الصوفية الذي يتردد في السوق ويجمع لهم شيئا يأكلونه ، يملكه الخادم ، ولا يلزمه الصرف إليهم ، إلا أن المروءة تقتضي الوفاء بما تصدى له ، ولو لم يف ، فلهم منعه من أن يظهر الجمع لهم ، والإنفاق عليهم . وإنما ملكه لأنه ليس بولي ولا وكيل عنهم ، بخلاف هدايا الختان .

قلت : ومن مسائل الفصل ، أن قبول الهدايا التي يجيء بها الصبي المميز ، جائز باتفاقهم ، وقد سبق في كتاب البيع ، وأنه يجوز قبول هدية الكافر ، وأنه يحرم على العمال وأهل الولايات قبول هدية من رعاياهم . والله أعلم .

[ ص: 370 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية