صفحة جزء
الثالثة : التقاط العبد ، وهو على ثلاثة أضرب . أحدها : التقاط لم يأذن فيه السيد ولا نهى عنه ، وفيه قولان . أظهرهما : لا يصح ، والثاني : كاحتطابه ، ويكون الحاصل لسيده . فإن قلنا : لا يصح التقاطه ، لم يعتد بتعريفه . ثم إن لم يعلم السيد التقاطه ، فالمال مضمون في يد العبد ، والضمان متعلق برقبته ، سواء أتلفه ، أو تلف بتفريط ، أو بغير تفريط ، كالمغصوب . وإن علم ، فله أحوال . أحدها : أن يأخذه من يده . ولهذا مقدمة ، وهي أن القاضي لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك ، هل يبرأ الغاصب من الضمان ؟ وجهان . أقيسهما : البراءة ، لأن يد القاضي نائبة عن يد المالك . فإن قلنا : لا يبرأ ، فللقاضي أخذه منه . وإن قلنا : يبرأ ، فإن كان المال معرضا للضياع ، والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس ، أو يغيب وجهه ، فكذلك ، وإلا ، فوجهان أحدهما : لا يأخذ ، فإنه أنفع للمالك . والثاني : يأخذ نظرا لهما جميعا . وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن معرضا للضياع ، ولا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهرا . وإن كان كذلك ، فوجهان . أصحهما : المنع ، لأن القاضي هو النائب عن الناس ، ولأنه [ ص: 394 ] قد يؤدي إلى الفتنة . والثاني : الجواز احتسابا ونهيا عن المنكر . فعلى الأول ، لو أخذه ضمنه ، وكان كغاصب من غاصب . وعلى الثاني : لا يضمن ، وبراءة الغاصب على الخلاف السابق ، وأولى بأن لا يبرأ . قال الإمام : ويجوز أن يقال : إن كان هناك قاض يمكن رفع الأمر إليه ، فلا يجوز ، وإلا ، فيجوز . إذا عرف هذا ، فقال معظم الأصحاب : إذا أخذ السيد اللقطة من العبد كان أخذه التقاطا ، لأن يد العبد إذا لم تكن يد التقاط ، كان الحاصل في يده ضائعا بعد ، ويسقط الضمان عن العبد لوصوله إلى نائب المالك ، فإن كل أهل للالتقاط كأنه نائب عنه . وبمثله قالوا فيما لو أخذه أجنبي ، إلا أن المتولي جعل أخذ الأجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة رجل فأخذه غيره ، واستبعد الإمام قولهم : إن أخذ السيد التقاط ، لأن العبد ضامن بالأخذ . ولو كان أخذ السيد التقاطا ، لسقط الضمان عنه ، فيتضرر [ به ] المالك ، وهذا وجه ذكره ابن كج والمتولي ، وحكيا تفريعا عليه أن السيد ينتزعه من يده ، ويسلمه إلى الحاكم ليحفظه لمالكه أبدا . وأما الإمام فقال : إذا قلنا : إنه ليس بالتقاط ، فأراد أخذه بنفسه وحفظه لمالكه ، فوجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ ، وأولى بالمنع ، لأن السيد ساع لنفسه غير متبرع . ثم يترتب على جواز الأخذ حصول البراءة كما قدمنا . وإن استدعى من الحاكم انتزاعه ، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد العادية . وإذا أزال ، فأولى أن تحصل [ البراءة ] لتعلق غرض السيد بالبراءة ، وهو غير منسوب إلى عدوان حتى يغلظ عليه .

الحال الثاني : أن يقره في يده ، ويستحفظه عليه ليعرفه . فإن لم يكن العبد أمينا ، فهو متعد بالإقرار ، وكأنه أخذه منه ورده إليه . وإن كان أمينا ، جاز ، [ ص: 395 ] كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه . وذكر الإمام في سقوط الضمان وجهين .

أصحهما عنده : المنع . وقياس كلام الجمهور سقوطه . الحال الثالث : أن لا يأخذه ولا يقره ، بل يهمله ويعرض عنه . فنقل المزني أن الضمان يتعلق برقبة العبد كما كان ، ولا يطالب به السيد في سائر أمواله ، لأنه لا تعدي منه ، ولا أثر لعلمه ، كما لو رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه ، ونقل الربيع تعلقه بالعبد ، وبجميع أموال السيد . وعكس الإمام ، والغزالي ، فنسبا الأول إلى الربيع ، والثاني إلى المزني . والصواب المعتمد ، ما سبق ثم فيهما أربعة طرق . أصحها وقول الأكثرين : المسألة على قولين . أظهرهما : تعلقه بالعبد ، وسائر أموال السيد ، حتى لو هلك العبد ، لا يسقط الضمان . ولو أفلس السيد ، قدم صاحب اللقطة في العبد على سائر الغرماء . ومن قال به ، لم يسلم عدم وجوب الضمان إذا رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه . والطريق الثاني : حمل نقل المزني على ما إذا كان العبد مميزا ، ونقل الربيع على غير المميز . والثالث : القطع بنقل المزني في النقل . والرابع : القطع بنقل الربيع ، وبه قال أبو إسحاق ، وغلطوا المزني في النقل هذا كله إذا قلنا : لا يصح التقاطه . فإن قلنا : يصح ، صح تعريفه ، وليس له التعريف أن يتملكه لنفسه ، وله التملك للسيد بإذنه ، ولا يجوز بغير إذنه على المذهب . وقيل : وجهان كاتهابه وشرائه ، فعلى المذهب قيل : لا يصح تعريفه بغير إذن سيده . والصحيح صحته كالالتقاط . قال الإمام : لكن إن قلنا : انقضاء مدة التعريف توجب الملك ، فيجوز أن يقال : لا يصح تعريفه ، ويجوز أن يقال : يصح ولا يثبت الملك ، كما لا يثبت إذا عرف من قصد الحفظ . ثم لا يخلو ، إما أن يعلم السيد بالالتقاط ، وإما أن لا يعلم . فإن لم يعلم ، فالمال أمانة في يد العبد ، لكن لو كان معرضا عن التعريف ، ففي الضمان وجهان كالوجهين في الحر إذا امتنع من التعريف . ولو أتلفه العبد بعد مدة التعريف ، أو تملكه لنفسه فهلك عنده ، فهل يتعلق الضمان بذمته كما لو اقترض فاسدا وأتلفه ، أم برقبته كالمغصوب ؟ وجهان . وبالأول قطع الشيخ أبو محمد في " الفروق " ، [ ص: 396 ] ولو أتلفه في المدة ، أو تلف بتقصيره ، فالمذهب تعلق الضمان برقبته ، وبه قطع الجمهور ، لأنه خيانة محضة ، إذ لم يدخل وقت التملك ، بخلاف ما بعد المدة . وقيل : في تعلقه بالرقبة ، أو الذمة قولان . وإن علم به السيد ، فله أخذه كأكسابه ، ثم يكون كالتقاطه بنفسه . فإن شاء حفظه لمالكه ، وإن شاء عرف وتملك . فإن كان العبد عرف بعض المدة ، احتسب [ به ] وبنى عليه . وإن أقره في يده وهو خائن ، ضمن السيد بإبقائه في يده . وإن كان أمينا ، جاز ، ثم إن تلف في يده في مدة التعريف ، فلا ضمان . وإن تلف بعدها ، فإن أذن السيد في التملك فتملك ، لم يخف الحكم ، وإلا ، فوجهان . أصحهما : يتعلق الضمان بالسيد ، لإذنه في سبب الضمان ، كما لو أذن له في استيام شيء فأخذه فتلف في يده . والثاني :

[ لا ] كما لو أذن له في الغصب فغصب . فعلى الأول ، يتعلق الضمان أيضا بذمة العبد ، فيطالب به بعد العتق كما يطالب به السيد في الحال ، وعلى الثاني ، يتعلق برقبته كما يتعلق بمال السيد . وإن لم يأذن ، فهل يتعلق الضامن بذمة العبد ، أم برقبته ؟ وجهان . أصحهما : الأول ، ولا يتعلق بالسيد قطعا . فإن أتلفه العبد بعد المدة ، فعلى الخلاف السابق .

فرع

قال صاحب " التقريب " : القولان في أصل المسألة ، فيما إذا نوى الالتقاط لنفسه ، فإن نوى لسيده ، فيحتمل أن يطرد القولان ، ويحتمل أن يقطع بالصحة . وقال ابن كج : القولان إذا التقط ليدفع إلى سيده . فإن قصد نفسه ، فليس له الالتقاط قطعا ، بل هو متعد ، وحكاه عن أبي إسحاق ، والقاضي أبي حامد .

الضرب الثاني : التقاط بإذن السيد ، بأن يقول : متى وجدت لقطة فخذها ، وائتني بها ، فطريقان . قال ابن أبي هريرة بطرد القولين ، لأن الإذن لا يفيده أهلية الولاية .

[ ص: 397 ] وقطع غيره بالصحة ، وإليه ميل الإمام ، كما لو أذن في قبول الوديعة ، ولو أذن له في الاكتساب مطلقا ، ففي دخول الالتقاط وجهان . الضرب الثالث : التقاط نهاه عنه السيد ، فقطع الإصطخري بالمنع ، وطرد غيره القولين .

قلت : طريقة الإصطخري أقوى ، ولكن سائر الأصحاب على طرد القولين ، قاله صاحب " المستظهري " . والله أعلم .

فرع

إذا التقط ثم أعتقه السيد ، فإن صححنا التقاطه ، فهي كسب عبده يأخذها السيد ويعرفها ، ويتملكها . فإن كان العبد عرف ، اعتد به ، هذا هو المذهب . وقال ابن القطان : هل السيد أحق نظرا إلى وقت الالتقاط ، أم العبد نظرا إلى وقت التملك ؟ وجهان . وإن لم نصحح التقاطه ، قال ابن كج : للسيد حق التملك إذا قلنا : للسيد التملك على هذا القول . وقطع الجمهور بأنه ليس للسيد أخذها . فعلى هذا ، هل للعبد تملكها وكأنه التقط بعد الحرية ، أم يجب أن يسلمها إلى الحاكم لأنه لم يكن أهلا ؟ وجهان . أصحهما : الأول .

فرع

في التقاط المكاتب طرق . أحدها : الصحة قطعا . والثاني : المنع قطعا ، بخلاف القن ، فإن السيد ينتزع منه ، ولا ولاية للسيد على مال المكاتب مع نقصانه . والثالث وهو الأصح عند الجمهور : طرد القولين كالعبد ، لكن الأظهر هنا باتفاق الأصحاب ، [ ص: 398 ] صحة التقاطه . ثم المذهب أن هذه الطرق في المكاتب كتابة صحيحة . فأما الفاسدة ، فكالقن قطعا . وقيل بطرد الخلاف في النوعين ، ونقل الإمام عن العراقيين ، تفريعا على القطع بالصحة ، أن في إبقاء اللقطة في يده قولين كما سبق في الفاسق ، وكتبهم ساكتة عن ذلك إلا ما شاء الله تعالى . فإن صححنا التقاط المكاتب ، عرفها وتملكها ويكون بدلها في كسبه . وفي تقدم المالك به على الغرماء وجهان في " أمالي " أبي الفرج الزاز . وإذا أعتق في مدة التعريف ، أتم التعريف وتملك . وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف ، فالمنقول عن الأصحاب ، أن القاضي يأخذها ويحفظها للمالك ، وأنه ليس للسيد أخذها وتملكها ، لأن التقاط المكاتب لا يقع للسيد ، فلا ينصرف إليه . وقال البغوي : ينبغي أن يجوز له الأخذ ، والتملك ، لأن الالتقاط اكتساب ، وأكساب المكاتب لسيده عند عجزه . قال : وكذا لو مات المكاتب ، أو العبد قبل التعريف ، وجب أن يجوز للسيد التعريف ، والتملك ، كما أن الحر إذا التقط ومات قبل التعريف ، يعرف الوارث ويتملك . وإذا لم نصحح التقاطه فالتقط ، صار ضامنا ، ولا يأخذ السيد اللقطة منه ، بل يأخذها القاضي ويحفظها ، هكذا ذكروه . ولك أن تقول : ذكرتم تفريعا على منع التقاط القن ، أن للأجنبي أخذها ويكون ملتقطا ، ولم تعتبروا الولاية ، وليس السيد في حق المكاتب بأدنى حالا من الأجنبي في القن . ثم إذا أخذها الحاكم برئ المكاتب من الضمان . ثم كيف الحكم ؟ ذكر الشيخ أبو حامد ، وغيره : أنه يعرفها ، فذا انقضت مدة التعريف ، تملكها المكاتب . والأصح : أنه ليس له التملك ، فإن التفريع على فساد الالتقاط ، لكن إذا [ أخذها ] حفظها إلى أن يظهر مالكها .

[ ص: 399 ] فرع

من بعضه حر وبعضه رقيق ، هل يصح التقاطه قطعا ، أم على القولين كالقن ؟ فيه طريقان . وقيل : يصح في قدر الحرية قطعا ، وفي الباقي الطريقان ، وبهذا قطع المتولي ، وأبداه الشاشي احتمالا .

قلت : المذهب المنصوص ، صحة التقاطه . والله أعلم .

فإن قلنا : لا يصح ، فهو متعد بالأخذ ، ضامن بقدر الحرية في ذمته ، ويؤخذ منه إن كان له مال ، وبقدر الرق في رقبته . وهل ينتزع منه ، أم يبقى في يده ويضم إليه مشرف ؟ وجهان حكاهما ابن كج . أصحهما : الانتزاع . وعلى هذا ، هل يسلم إلى السيد ، أم يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه ؟ وجهان . الصحيح : الثاني . فإن سلم إلى السيد ، فعن أبي حفص بن الوكيل : أن السيد يعرفه ويتملكه . قال ابن كج : ويحتمل عندي أن يكون بينهما بحسب الرق والحرية . أما إذا قلنا : يصح التقاطه ، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة ، فاللقطة بينهما يعرفانها ويتملكانها بحسب الرق والحرية كشخصين التقطا مالا . وقال ابن الوكيل : يختص بها السيد كلقطة القن ، وليس بشيء . وإن كان بينهم مهايأة ، بني على أن الكسب النادر هل يدخل في المهايأة ؟ فيه قولان . ويقال : وجهان ذكرناهما في زكاة الفطر . وميل العراقيين والصيدلاني هناك إلى ترجيح عدم الدخول ثم أنهم مع سائر الأصحاب ، كالمتفقين على ترجيح عدم الدخول هنا ، وهو نصه في " المختصر " . فعلى هذا ، إن وقعت اللقطة في نوبة السيد ، عرفها وتملكها . وإن وقعت في نوبة العبد ، عرفها وتملك . والاعتبار بوقت الالتقاط ، هذا هو الصحيح المعروف . وأشار [ ص: 400 ] الإمام إلى وجه : أن الاعتبار بوقت التملك . وإن قلنا : النادر لا يدخل في المهايأة ، فهو كما لو لم يكن مهايأة .

قلت : ونقل إمام الحرمين في باب زكاة الفطر اتفاق العلماء على أن أرش الجناية لا يدخل في المهايأة ، لأنه يتعلق بالرقبة وهي مشتركة . والله أعلم .

فرع

المدبر ، والمعلق عتقه بصفة ، وأم الولد كالقن في الالتقاط . لكن حيث حكمنا بتعلق الضمان برقبة القن ، ففي أم الولد يجب على السيد ، سواء علم التقاطها ، أم لا ، لأن جنايتها على السيد . وفي " الأم " أنه إن علم سيدها ، فالضمان في ذمته ، وإلا ، ففي ذمتها ، وهذا لم يثبته الأصحاب ، وقالوا : هذا سهو من كاتب ، أو غلط من ناقل ، وربما حاولوا تأويله .

التالي السابق


الخدمات العلمية