صفحة جزء
الحكم الثاني : التعريف ، فينبغي للملتقط أن يعرف اللقطة ، ويعرفها . أما المعرفة ، فيعلم عفاصها ، وهو الوعاء من جلد وخرقة ، وغيرهما ، ووكاءها ، وهو الخيط الذي تشد به ، وجنسها ، أذهب أم غيره ؟ ونوعها ، أهروية ، أم غيرها ؟ وقدرها ، بوزن أو عدد وإنما يعرف هذه الأمور لئلا تختلط بماله ، ويستدل بها على صدق طالبها ، ويستحب تقييدها بالكتابة .

وأما التعريف ، ففيه مسائل . إحداها : يجب تعريف اللقطة سنة ، وليس ذلك بمعنى استيعاب السنة ، بل لا يعرف في الليل ، ولا يستوعب الأيام أيضا ، بل على المعتاد ، فيعرف في الابتداء في كل يوم مرتين طرفي النهار ، ثم في كل يوم مرة ، ثم في كل أسبوع مرتين أو مرة ، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار للأول . وفي وجوب المبادرة بالتعريف على الفور وجهان . الأصح الذي يقتضيه كلام الجمهور : لا يجب ، بل المعتبر تعريف سنة متى كان . وهل تكفي سنة مفرقة بأن يفرق شهرين مثلا ، ويترك شهرين ، وهكذا ؟ فيه وجهان . أحدهما : لا ، وبه قطع الإمام ، لأنه لا تظهر فائدة التعريف .

[ ص: 408 ] فعلى هذا ، إذا قطع مدة ، وجب الاستئناف . والثاني وبه قطع العراقيون ، والروياني : نعم .

قلت : هذا الثاني أصح ، ولم يقطع به العراقيون بل صححوه ، لأنه عرف سنة . والله أعلم .

الثانية : ليصف الملتقط بعض أوصاف اللقطة ، فإنه أقرب إلى الظفر بالمالك . وهل هو شرط ، أم مستحب ؟ وجهان . أصحهما : مستحب . فإن شرطناه ، فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول : من ضاع منه دراهم ؟ قال الإمام : عندي أنه لا يكفي ، ولكن يتعرض للعفاص ، والوكاء ، ومكان الالتقاط وزمنه ، ولا يستوعب الصفات ، ولا يبالغ فيها لئلا يعتمدها الكاذب . فإن بالغ ، ففي مصيره ضامنا وجهان ، لأنه لا يلزمه الدفع إلا ببينة ، لكن قد يرفعه إلى حاكم يلزمه الدفع بالوصف .

قلت : أصحهما : الضمان . والله أعلم .

الثالثة : إن تبرع الملتقط بالتعريف ، أو بذل مؤنته ، فذاك ، وإلا ، فإن أخذها للحفظ أبدا ، فإن قلنا : لا يجب التعريف والحالة هذه ، فهو متبرع إن عرف . وإن قلنا : يجب ، فليس عليه مؤنته ، بل يرفع الأمر إلى القاضي ليبذل أجرته من بيت المال ، أو يقترض على المالك ، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال . وإن أخذها للتملك ، واتصل الأمر بالتملك ، فمؤنة التعريف على الملتقط قطعا . وإن ظهر مالكها ، فهل هي على الملتقط لقصده التملك ، أم على المالك لعود الفائدة إليه ؟ فيه وجهان . أصحهما : أولهما . ولو قصد الأمانة أولا ، ثم قصد التملك ، ففيه الوجهان .

[ ص: 409 ] الرابعة : ما ذكرناه من وجوب التعريف ، هو فيما إذا قصد التملك ، أما إذا قصد الحفظ أبدا ، ففي وجوبه وجهان . أصحهما عند الإمام والغزالي : وجوبه ، لئلا يكون كتمانا مفوتا للحق على صاحبه . والثاني وبه قطع الأكثرون : لا يجب ، قالوا : لأن التعريف إنما يجب لتخصيص شرط التملك .

قلت : الأول أقوى ، وهو المختار . - والله أعلم - .

الخامسة : ليكن التعريف في الأسواق ومجامع الناس ، وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات ، ولا يعرف في المساجد ، كما لا تطلب اللقطة فيها ، قال الشاشي في " المعتمد " : إلا أن الأصح جواز التعريف في المسجد الحرام ، بخلاف سائر المساجد . ثم إذا التقط في بلدة ، أو قرية ، فلا بد من التعريف فيها ، وليكن أكثر تعريفه في البقعة التي وجد فيها ، لأن طلب الشيء في موضع ضياعه أكثر . فإن حضره سفر ، فوض التعريف إلى غيره ، ولا يسافر بها . وإن التقط في الصحراء ، فعن أبي إسحاق : أنه إن اجتازت به قافلة ، تبعهم وعرف ، وإلا ، فلا فائدة في التعريف في المواضع الخالية ، ولكن يعرف في البلدة التي يقصدها قربت أم بعدت . وإن بدا له الرجوع ، أو قصد بلدة أخرى ، عرف فيها ، ولا يكلف أن يغير قصده ، ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع ، حكاه الإمام ، وتابعه الغزالي . ولكن ذكر المتولي وغيره : أنه يعرف في أقرب البلاد إليه ، وهذا إن أراد به الأفضل فذاك ، وإلا ، فيحصل في المسألة الوجهان .

قلت : الأصح : أنه لا يكلف العدول . والله أعلم .

[ ص: 410 ] فرع

ليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا بإذن الحاكم ، فإن فعل ، ضمن ، ذكره ابن كج ، وغيره .

فرع

يشترط كون المعرف عاقلا غير مشهور بالخلاعة والمجون ، وإلا ، فلا يعتمد قوله ، ولا تحصل فائدة التعريف .

فصل

إنما يجب تعريف اللقطة إذا جمعت وصفين ، أحدهما : كون الملتقط كثيرا . فإن كان قليلا ، نظر ، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة الحنطة ، والزبيبة ، فلا تعريف ، ولواجده الاستبداد به . وإن كان متمولا مع قلته ، وجب تعريفه ، وفي قدر تعريفه وجهان . أصحهما عند العراقيين :

[ سنة ] كالكثير . وأشبههما باختيار معظم الأصحاب : لا يجب سنة . فعلى هذا أوجه : أحدها : يكفي مرة . والثاني : ثلاثة أيام . وأصحها : مدة يظن في مثلها طلب فاقده له ، فإذا غلب على الظن إعراضه ، سقط ، ويختلف ذلك باختلاف المال ، قال الروياني : فدانق الفضة يعرف في الحال ، ودانق الذهب يعرف يوما ، أو يومين ، أو ثلاثة . وأما الفرق بين القليل والمتمول والكثير ، ففيه أوجه . أصحها : لا يتقدر ، بل ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه ، ولا يطول طلبه له غالبا ، فقليل ، قاله الشيخ أبو محمد ، وغيره ، وصححه [ ص: 411 ] الغزالي ، والمتولي . والثاني : القليل : ما دون نصاب السرقة . والثالث : الدينار قليل . والرابع : ما دون الدرهم قليل ، والدرهم كثير .

فرع

قال المتولي : يحل التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك ، أو كان قدرا لا يشق عليه أن يلتقط ، وإن كان يلتقط بنفسه لو اطلع عليه ، وإلا ، فلا يحل .

الوصف الثاني : أن يكون شيئا لا يفسد . أما ما يفسد ، فضربان :

أحدهما : أن لا يمكن إبقاؤه كالهريسة ، والرطب الذي لا يتتمر ، والبقول . فإن وجده في برية ، فهو بالخيار بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه ، وبين أن يتملكه في الحال فيأكله ويغرم قيمته . وإن وجده في بلدة ، أو قرية ، فطريقان :

أحدهما : على قولين . أحدهما : ليس له الأكل ، بل يبيعه ويأخذ ثمنه لمالكه ، لأن البيع متيسر في العمران . والثاني وهو المشهور : أنه كما لو وجد في برية . والطريق الثاني : القطع بالمشهور . فإذا لم نجوز الأكل ، فأخذ للأكل ، كان غاصبا . وإذا جوزناه فأكل ، ففي وجوب التعريف بعده وجهان . أصحهما : الوجوب إن كان في البلد ، كما أنه إذا باع يعرف . وإن كان في الصحراء ، قال الإمام : فالظاهر أنه لا يجب ، لأنه لا فائدة فيه . وهل يجب إفراز القيمة المغرومة من ماله ؟ وجهان . ويقال : قولان أصحهما : لا ، لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه ، وإذا أفرز [ كان المفرز ] أمانة . والثاني : يجب احتياطا لصاحب المال ليقدم بالمفرز لو أفلس الملتقط . وعلى هذا ، فالطريق أنه يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال . فإن لم يجد حاكما ، فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن يستنيب عنه ؟ فيه احتمال [ ص: 412 ] عند الإمام . وذكر الإمام ، والغزالي ، أنه إذا أفرزها ، لم تصر ملكا لصاحب المال ، بل هو أولى بتملكها . ولو كان كما قالا ، لم يسقط حقه بهلاك المفرز . وقد نصوا على السقوط ، ونصوا أيضا على أنه لو مضت مدة التعريف ، فله أن يتملك المفرز كما يتملك نفس اللقطة ، وكما يتملك الثمن إذا باع الطعام ، وهذا يقتضي صيرورة المفرز ملكا لصاحب اللقطة . ولو اختلفت قيمة يومي الأخذ والأكل ، ففي بعض الشروح أنه إن أخذ للأكل اعتبرت قيمة يوم الأخذ . وإن أخذ التعريف ، اعتبرت قيمة يوم الأكل . وإذا اختار البيع ، ففي الحاجة إلى إذن الحاكم ما سبق في بيع الشاة . وإذا باع أو أكل ، عرف المبيع والمأكول باتفاق الأصحاب ، لا الثمن والقيمة ، سواء أفرزها ، أم لا .

الضرب الثاني : ما يمكن إبقاؤه بالمعالجة والتجفيف . فإن كان الحظ لصاحبه في بيعه رطبا ، بيع ، وإلا ، فإن تبرع الملتقط بالتجفيف فذاك ، وإلا ، بيع بعضه وأنفق على تجفيف الباقي .

التالي السابق


الخدمات العلمية