صفحة جزء
فصل

للتبعية في الإسلام ثلاث جهات . إحداها : إسلام الأبوين أو أحدهما ، ويتصور [ ص: 430 ] ذلك من وجهين . أحدهما : أن يكون الأبوان أو أحدهما مسلما يوم العلوق ، فيحكم بإسلام الولد ، لأنه جزء من مسلم ، فإن بلغ ووصف الكفر ، فهو مرتد . والثاني : أن يكونا كافرين يوم العلوق ، ثم يسلما أو أحدهما ، فيحكم بإسلام الولد في الحال . قال الإمام : وسواء اتفق الإسلام في حال اجتنان الولد أو بعد انفصاله ، وسنذكر - إن شاء الله تعالى - ما يفترق فيه هذان الوجهان بإسلامه . وفي معنى الأبوين الأجداد والجدات ، سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا ، فإذا أسلم الجد أبو الأب ، أو أبو الأم ، تبعه الصبي إن لم يكن الأب حيا قطعا ، وكذا إن كان على الأصح . ثم إذا بلغ هذا الصبي ، فإن أفصح بالإسلام ، تأكد ما حكمنا به . وإن أفصح بالكفر ، فقولان . المشهور : أنه مرتد ، لأنه سبق الحكم بإسلامه جزما ، فأشبه من باشر الإسلام ثم ارتد ، وما إذا حصل العلوق في حال الإسلام . والثاني : أنه كافر أصلي ، لأنه كان محكوما بكفره أولا وأزيل تبعا ، فإذا استقل ، زالت التبعية . ويقال : إن هذا القول مخرج ، ومنهم من لم يثبته وقطع بالأول . فإن حكمنا بكونه مرتدا لم ينقض شيئا مما أمضيناه من أحكام الإسلام . وإن حكمنا بأنه كافر أصلي ، فوجهان . أحدهما : إمضاؤها بحالها ، لجريانه في حال التبعية . وأصحهما : أنا نتبين بطلانها ، ونستدرك ما يمكن استدراكه ، حتى يرد ما أخذه من تركة قريبه المسلم ، ويأخذ من تركة قريبه الكافر ما حرمناه منه ، ونحكم بأن إعتاقه عن الكفارة لم يقع مجزئا . هذا فيما جرى في الصغر . فأما إذا بلغ ومات له قريب مسلم قبل أن يفصح بشيء ، أو أعتق عن الكفارة في هذا الحال ، فإن قلنا : لو أفصح بالكفر كان مرتدا ، أمضينا أحكام الإسلام ولا تنقض . وإن جعلناه كافرا أصليا ، فإن أفصح بالكفر ، تبينا أنه لا إرث ولا إجزاء عن الكفارة . وإن فات الإفصاح بموت أو قتل ، فوجهان . أحدهما : إمضاء أحكام الإسلام كما لو مات في الصغر .

[ ص: 431 ] وأصحهما : نتبين الانتقاض ، لأن سبب التبعبية الصغر وقد زال ، ولم يظهر في الحال حكمه في نفسه ، فيرد الأمر إلى الكفر الأصلي . وعن القاضي حسين : أنه إن مات قبل الإفصاح وبعد البلوغ ، ورثه قريبه المسلم . ولو مات له قريب مسلم ، فإرثه عنه موقوف . قال الإمام : أما التوريث منه ، فيخرج على أنه لو مات قبل الإفصاح ، هل ينقض الحكم ؟ وأما توريثه ، فإن أراد بالتوقف أنه يقال : لو أفصح بالإسلام ، فهو قريب ، ويستفاد به الخروج من الخلاف . وأما لو مات القريب ، ثم مات هو ، وفات الإفصاح ، فلا سبيل إلى الفرق بين توريثه والتوريث عنه . ولو قتل بعد البلوغ ، وقبل الإفصاح ، ففي تعلق القصاص بقتله قولان أحدهما : نعم ، كما لو قتل قبل البلوغ ، وأظهرهما : لا ، للشبهة وانقطاع التبعية . وأما الدية ، فالذي أطلقوه وحكوه عن نص الشافعي - رضي الله عنه - : تعلق الدية الكاملة بقتله ، وقياس قولنا : إنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا ، أن لا نوجب الدية الكاملة على رأي ، كما أنه إذا فات الإفصاح بالموت يرد الميراث على رأي .

قلت : الصواب ما قاله الشافعي ، والأصحاب - رضي الله عنهم - . والله أعلم .

فرع

المحكوم بكفره إذا بلغ مجنونا ، حكمه حكم الصغير ، حتى إذا أسلم أحد والديه تبعه . وإن بلغ عاقلا ثم جن ، فكذلك على الأصح . الجهة الثانية : تبعية السابي ، فإذا سبى المسلم طفلا منفردا عن أبويه ، حكم بإسلامه ، لأنه صار تحت ولايته كالأبوين .

قلت : هذا الذي جزم به ، هو الصواب المقطوع به في كتب المذهب ، [ ص: 432 ] وشذ صاحب " المهذب " فذكر في كتاب السير في الحكم بإسلامه وجهين ، وزعم أن ظاهر المذهب : أنه لا يحكم به ، وليس بشيء ، وإنما ذكرته تنبيها على ضعفه لئلا يغتر به . والله أعلم .

فلو سباه ذمي ، فوجهان . أحدهما : يحكم بإسلامه ، لأنه من أهل دار الإسلام . وأصحهما : لا ، لأن كونه من أهل الدار لم يؤثر فيه ولا في أولاده ، فغيره أولى . فعلى هذا ، لو باعه الذمي لمسلم ، لم يحكم بإسلامه . ولو سبي ومعه أحد أبويه ، لم يحكم بإسلامه قطعا . فلو كانا معه ثم ماتا ، لم يحكم بإسلامه أيضا ، لأن التبعية إنما تثبت في ابتداء السبي .

قلت : معنى " سبي معه أحد أبويه " ، أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة ، ولا يشترط كونها في ملك رجل . قال البغوي في كتاب " الظهار " : إذا سباه مسلم ، وسبى أبويه غيره ، إن كان في عسكر واحد ، تبع أبويه . وإن كان في عسكرين ، تبع السابي . والله أعلم .

فرع

حكم الصبي المحكوم بإسلامه تبعا للسابي إذا بلغ ، حكم المحكوم بإسلامه تبعا لأبويه إذا بلغ .

فرع

المحكوم بإسلامه تبعا لأبيه ، أو للسابي إذا وصف الكفر ، فإن جعلناه كافرا أصليا ، [ ص: 433 ] ألحقناه بدار الحرب . فإن كان كفره مما يقر عليه بالجزية ، قررناه برضاه . وإن وصف كفرا غير ما كان موصوفا به ، فهو انتقال من ملة إلى ملة ، وفيه تفصيل وخلاف مذكور في كتاب النكاح . وأما تجهيزه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين إذا مات بعد البلوغ ، وقبل الإفصاح ، فيتفرع على القولين في أنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا أو مرتدا ؟ ورأى الإمام أن يتساهل في ذلك ويقام فيه شعار الإسلام .

قلت : الذي رآه الإمام هو المختار أو الصواب ، لأن هذه الأمور مبنية على الظواهر ، وظاهره الإسلام . والله أعلم .

الجهة الثالثة : تبعية الدار . فاللقيط يوجد في دار الإسلام أو دار الكفر . الحال الأول : دار الإسلام ، وهي ثلاثة أضرب . أحدها : دار يسكنها المسلمون ، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل ذمة ، تغليبا للإسلام . الثاني : دار فتحها المسلمون ، وأقروها في يد الكفار بجزية ، فقد ملكوها ، أو صالحوهم ولم يملكوها ، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر ، وإلا ، فكافر على الصحيح . وقيل : مسلم ، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه منهم .

الثالث : دار كان المسلمون يسكنونها ، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار ، فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام ، فهو كافر على الصحيح . وقال أبو إسحاق : مسلم ، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه . وإن كان فيها معروف بالإسلام ، فهو مسلم ، وفيه احتمال للإمام . وأما عد الأصحاب الضرب الثالث دار إسلام ، فقد يوجد في كلامهم ما يقتضي أن الاستيلاء القديم يكفي لاستمرار الحكم ، ورأيت لبعض [ ص: 434 ] المتأخرين تنزيل ما ذكروه على ما إذا كانوا لا يمنعون المسلمين منها ، فإن منعوهم ، فهي دار كفر .

الحال الثاني : دار الكفر . فإن لم يكن فيها مسلم ، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره . وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون ، فهل يحكم بكفره تبعا للدار ، أو بإسلامه تغليبا للإسلام ؟ وجهان . أصحهما : الثاني ، ويجريان فيما لو كان فيها أسارى ، ورأى الإمام ترتيب الخلاف فيهم على التجار ، لأنهم مقهورون . قال : ويشبه أن يكون الخلاف في قوم ينتشرون ، إلا أنهم ممنوعون من الخروج من البلدة ، فأما المحبوسون في المطامير ، فيتجه أن لا يكون لهم أثر كما لا أثر لطروق العابرين من المسلمين ، وحيث حكمنا بالكفر ، فلو كان أهل البقعة أصحاب ملل مختلفة ، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا .

فرع

الصبي المحكوم بإسلامه بالدار ، إذا بلغ وأفصح بالكفر ، فهو كافر أصلي على المذهب . وقيل : قولان كالمسلم تبعا لأبويه أو السابي . أحدهما : أنه أصلي . والثاني : أنه مرتد . فإذا قلنا : أصلي ، فهل نتوقف في حال صباه في الأحكام التي يشترط لها الإسلام ؟ وجهان . أصحهما : لا ، بل نمضيها كالمحكوم بإسلامه تبعا لأبيه . والثاني : نتوقف حتى يبلغ فيفصح بالإسلام . فإن مات في صباه ، لم يحكم بشيء من أحكام الإسلام ، وهذا ضعيف .

فرع

اللقيط الموجود في دار الإسلام ، لو ادعى ذمي نسبه ، وأقام عليه بينة ، لحقه [ ص: 435 ] وتبعه في الكفر ، وارتفع ما كنا نظنه . وإن اقتصر على مجرد الدعوى ، فالمذهب أنه مسلم ، وهو المنصوص ، وبه قطع أبو إسحاق وغيره ، وصححه الأكثرون . وقيل : قولان . ثانيهما : يحكم بكفره ، لأنه يلحقه بالاستحقاق . فإذا ثبت نسبه ، تبعه في الدين كما لو أقام البينة . وحجة المذهب : أنا حكمنا بإسلامه ، فلا نغيره بمجرد دعوى كافر . وأيضا فيجوز أن يكون ولده من مسلمة ، وحينئذ لا يتبع الدين النسب . وعلى الطريقين ، يحال بينهما كما ذكرنا فيما إذا وصف المميز الإسلام . ثم إذا بلغ ووصف الكفر ، فإن قلنا : يتبعه فيه ، قرر ، لكنه يهدد ، ولعله يسلم ، وإلا ، ففي تقريره ما سبق من الخلاف .

فرع

سبق أن اللقيط المسلم ، ينفق عليه من بيت المال إذا لم يكن له مال . فأما المحكوم بكفره ، فوجهان . أصحهما : كذلك ، إذ لا وجه لتضييعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية