صفحة جزء
فرع

الشيء الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته ، والغالب في مثله النجاسة ، فيه قولان ، لتعارض الأصل . والظاهر : أظهرهما : الطهارة ، عملا بالأصل ، فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وأوانيهم ، وثياب القصابين ، والصبيان الذين لا يتوقون النجاسة وطين الشوارع حيث لا يستيقن ، ومقبرة شك في نبشها ، وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس ، وثياب المنهمكين في الخمر ، والتلوث بالخنزير من اليهود [ ص: 38 ] والنصارى - ولا يلحق بهؤلاء الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة ، كاليهود والنصارى - فإن ألحقنا غلبة الظن باليقين ، واشتبه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النجاسة ، اجتهد فيهما . وإن رجحنا الأصل ; فهما طاهران ، وربما أطلق الأصحاب القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة ، لكن له شرط ، وهو أن تكون غلبة الظن مستندة إلى كون الغالب في مثله النجاسة . فإن لم يكن كذلك ، لم يلزم طرد القولين ، حتى لو رأى ظبيه تبول في ماء كثير وهو بعيد منه ، فجاءه ، فوجده متغيرا ، وشك ; هل تغير بالبول ، أم بغيره ؟ ، فهو نجس ، نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - ، والأصحاب - رحمهم الله - .

قلت : الجمهور حكموا بالنجاسة مطلقا ، وبعضهم قال : إن كان عهده عن قرب غير متغير ، فهو النجس . وإن لم يعهده أصلا ، أو طال عهده ، فهو طاهر ، لاحتمال التغير بطول المكث .

واعلم أن الإمام الرافعي اختصر هذا الباب جدا ، وترك أكثر مسائله . وأنا إن شاء الله تعالى أشير إلى معظم ما تركه .

قال أصحابنا : يجوز الاجتهاد في المشتبهين من الطعامين ، والدهنين ، ونحوهما ، في الجنس ، والجنسين ، كلبن وخل تنجس أحدهما ، وثوب وتراب ، وطعام وماء ، ولنا وجه منكر أنه لا يجوز في الجنسين . حكاه الشيخ أبو حامد وغلطه ، ولو اشتبه لبنان ومعه ثالث متيقن الطهارة ، إن لم يكن مضطرا إلى شربه ، جاز الاجتهاد فيهما ، وإن اضطر ، فعلى الوجهين في الماءين ومعه ثالث . ولو أخبره بنجاسة أحد المشتبهين بعينه من يقبل خبره ، عمل به ، ولم يجز الاجتهاد ، فإن كان معه إناءان ، فقال عدل : ولغ الكلب في هذا دون ذاك ، وقال آخر : في ذاك دون هذا ، حكم بنجاستهما ، لاحتمال الولوغ في وقتين ، فإن عينا وقتا بعينه ، عمل بقول أوثقهما عنده على المختار الذي قطع به إمام الحرمين . فإن استويا ، فالمذهب أنه يسقط خبرهما ، وتجوز الطهارة بهما ، وفيه طرق للأصحاب ، [ ص: 39 ] وتفريعات طويلة أوضحتها في شرحي ( المهذب ) و ( التنبيه ) ولو قال عدل : ولغ في هذا الإناء ، هذا الكلب في وقت كذا ، فقال آخر : كان هذا الكلب في ذلك الوقت ببلد آخر ، فالأصح طهارة الإناء ، للتعارض ، والثاني : النجاسة لاشتباه الكلاب . ولو أدخل الكلب رأسه في الإناء ، وأخرجه ولم يعلم ولوغه ، فإن كان فمه يابسا ، فالماء على طهارته ، وإن كان رطبا ، فالأصح : الطهارة للأصل . والثاني : النجاسة ، للظاهر . وإذا توضأ بالمظنون طهارته ، ثم تيقن أنه كان نجسا ، أو أخبره عدل ، لزمه إعادة الصلاة ، وغسل ما أصابه الماء من بدنه وثوبه . ويكفيه الغسلة الواحدة عن النجاسة والحدث جميعا إذا نوى الحدث ، على أصح الوجهين عند العراقيين ، وهو المختار ، خلاف ما جزم به الرافعي وجماعة من الخراسانيين : أنه لا بد من غسلتين . ولنا قول شاذ في ( الوسيط ) وغيره : أنه لا تجب إعادة هذه الصلاة ، كنظيره من القبلة . ولو توضأ بأحد المشتبهين من غير اجتهاد ، وصلى ، وقلنا بالصحيح : أنه لا يجوز ، فبان أن الذي توضأ به هو الطاهر ، لم تصح صلاته قطعا ، ولا وضوءه على الأصح ، لتلاعبه ، وكنظيره في القبلة والوقت . ولو اشتبه الإناءان على رجلين ، فظن كل واحد طهارة إناء باجتهاده ، لم يقتد أحدهما بالآخر . فلو كانت الآنية ثلاثة ، نجس وطاهران ، فاجتهد فيها ثلاثة رجال ، وتوضأ كل بإناء ، وأمهما واحد في الصبح ، وآخر في الظهر ، وآخر في العصر ، فثلاثة أوجه . [ ص: 40 ] الصحيح الأشهر : قول ابن الحداد : يصح لكل واحد التي أم فيها . والاقتداء الأول ، ويتعين الثاني للبطلان . والثاني : قول ابن القاص : لا يصح له إلا التي أم فيها . والثالث : قول أبي إسحاق المروزي : تصح التي أم فيها . والاقتداء الأول إن اقتصر عليه . فإن اقتدى ثانيا ، بطلا جميعا . وإن زادت الآنية والمجتهدون ، أو سمع من الرجال صوت حدث ، فتناكروه ، فحكم كله خارج على ما ذكرته ، وقد أوضحت كل هذا بأمثلته وأدلته في شرحي ( المهذب ) و ( التنبيه ) .

وقد ذكر الرافعي - رحمه الله - المسألة في باب ( صفة الأئمة ) وهذا الموضع أنسب . ولو وجد قطعة لحم ملقاة ، فإن كان في البلد مجوس ومسلمون ، فنجسة ، فإن تمحض المسلمون ، فإن كانت في خرقة ، أو مكتل ، فطاهرة ، وإن كانت ملقاة مكشوفة ، فنجسة . ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد ، أو إناء بول بأواني بلد ، فله أخذ بعضها بالاجتهاد بلا خلاف ، وإلى أي حد ينتهي ؟ فيه وجهان مذكوران في ( البحر ) أصحهما إلى أن يبقى واحد . والثاني : إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء ، منع الجواز . ولو كان له دنان فيهما مائع ، فاغترف منهما في إناء ، فرأى فيه فأرة لا يدرى من أيهما هي ، تحرى ، فإن ظهر له أنها من أحدهما بعينه ، فإن كان اغترف بمغرفتين ، فالآخر طاهر ، وإن كان بمغرفة ، فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة في الثاني ، فالأول على طهارته ، وإلا ، فهما نجسان . وقد أكثرت الزيادة في هذا الباب لمسيس الحاجة إليها ، فبقيت منه بقايا حذفتها كراهة كثرة الإطالة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية