صفحة جزء
الركن الثالث : الشهادة ، فلا ينعقد النكاح إلا بحضرة رجلين مسلمين مكلفين حرين عدلين سميعين بصيرين متيقظين عارفين لسان المتعاقدين . وقيل : يصح بالأعميين ، وحكى أبو الحسن العبادي - رحمه الله - وجها أنه ينعقد بمن لا يعرف لسان المتعاقدين ، لأنه ينقله إلى الحاكم . وأما المغفل الذي لا يضبط ، فلا ينعقد به ، وينعقد بمن يحفظ وينسى عن قريب .

وفي الأخرس وذي الحرفة الدنية ، والصباغ ، والصائغ ، وجهان . وفي عدوي الزوجين أو أحدهما ، أوجه . أصحها عند البغوي وهو المنصوص في الأم : الانعقاد . والثالث : ينعقد بعدوي أحدهما دون عدويهما ، واختاره العراقيون . [ ص: 46 ] وفي ابنيهما وابني أحدهما وابنه وابنها هذه الأوجه . وقيل : يختص الخلاف بهذه الصورة ، وينعقد في العدوين قطعا ، لأن العداوة قد تزول . وقيل : ينعقد بابنيها وعدويه دون ابنيه وعدويها ، لأنه محتاج إلى الإثبات دونها ، ويجري الخلاف في جده وجدها ، وأبيه مع جدها .

وأما أبوها ، فولي عاقد ، فلا يكون شاهدا . ولو وكل ، لم ينعقد بحضوره ، لأن الوكيل نائبه ، وكذا لو وكل غير الأب وحضر مع شاهد آخر ، لم ينعقد . قال البغوي في " الفتاوى " : لو كان لها إخوة ، فزوج أحدهم ، وحضر آخران منهم شاهدين ، ففي صحة النكاح جوابان . وجه المنع : أن الشرع جعل المباشر نائبا عن الباقين فيما توجه عليهم .

قلت : الراجح منهما ، الصحة . قال أصحابنا : وينعقد بحضرة ابنيه مع ابنيها ، أو عدويه مع عدويها بلا خلاف ، لإمكان إثبات شقته . - والله أعلم - .

فرع

ينعقد النكاح بشهادة المستورين على الصحيح . وقال الاصطخري : لا . والمستور : من عرفت عدالته ظاهرا ، لا باطنا . وقال البغوي : لا ينعقد بمن لا تعرف عدالته ظاهرا ، وهذا كأنه مصور فيمن لا يعرف إسلامه ، وإلا ، فظاهر من حال المسلم الاحتراز من أسباب الفسق .

قلت : الحق ، قول البغوي ، وأن مراده من لا يعرف ظاهره بالعدالة ، وقد صرح [ ص: 47 ] البغوي بهذا ، وقاله شيخه القاضي حسين ، ونقله إبراهيم المروذي عن القاضي ولم يذكر غيره . - والله أعلم - .

ولا ينعقد بمن لا يظهر إسلامه وحريته ، بأن يكون في موضع يختلط فيه المسلمون بالكفار والأحرار بالعبيد ولا غالب . وتردد الشيخ أبو محمد في مستور الحرية ، والصحيح الأول ، بل لا يكتفى بظاهر الإسلام والحرية بالدار حتى يعرف حاله فيهما باطنا . هذا مقتضى كلام البغوي وغيره ، وفرقوا بأن الحرية يسهل الوقوف عليها ، بخلاف العدالة والفسق . ولو أخبر عدل بفسق المستور ، فهل يزول الستر فلا ينعقد بحضوره ، وإن زال فيسلك به مسلك الرواية ؟ أم يقال : هو شهادة فلا يقدح إلا قول من يجرح عند القاضي ؟ تردد فيهما الإمام .

قلت : لو ترافع الزوجان إلى حاكم ، وأقرا بنكاح عقد بمستورين ، واختصما في حق زوجته ، كنفقة ونحوها ، حكم بينهما ، ولا ينظر في حال الشاهدين إلا أن يعلم فسقهما فلا يحكم . فإن جحد أحدهما النكاح ، فأقام المدعي مستورين ، لم يحكم بصحته ولا فساده ، بل يتوقف حتى يعلم باطنهما ، ذكره الشيخ أبو حامد وغيره . - والله أعلم - .

فرع

لو بان الشاهد فاسقا حال العقد ، فالنكاح باطل على المذهب ، كما لو بان كافرا أو عبدا ، وإنما يتبين الفسق ببينة أو بتصادق الزوجين أنهما كانا فاسقين ولم نعلمهما ، أو نسينا فسقهما . فأما لو قالا : علمنا ( فسقهما ) حينئذ ، أو علمه أحدنا ، فقال الإمام : نتبين البطلان بلا خلاف ، لأنهما لم يكونا مستورين عند الزوجين ، وعليهما التعويل ، [ ص: 48 ] ولا اعتبار بقول الشاهدين : كنا فاسقين يومئذ ، كما لا اعتبار بقولهما : كنا فاسقين بعد الحكم بشهادتهما ، وكذا لو تقار الزوجان أن النكاح وقع في الإحرام أو العدة أو الردة ، نتبين بطلانه ، ولا مهر إلا إذا كان دخل بها ، فيجب مهر المثل . فلو نكحها بعد ذلك ، ملك ثلاث طلقات . ولو اعترف الزوج بشيء من ذلك وأنكرت ، لم يقبل قوله عليها في المهر ، فيجب نصف المسمى إن كان قبل الدخول ، وكله إن كان بعده ، ويفرق بينهما بقوله . وفي سبيل هذا التفريق خلاف . قال أصحاب القفال : هو طلقة بائنة ، فلو نكحها يوما ، عادت بطلقتين . قالوا : وهذا مأخوذ من نص الشافعي - رضي الله عنه - ، أنه لو نكح أمة ، ثم قال : نكحتها وأنا واجد طول حرة ، بانت بطلقة . وعن الشيخ أبي حامد والعراقيين : أنها فرقة فسخ لا تنقص عدد الطلاق ، كما لو أقر الزوج بالرضاع . وإلى هذا مال الإمام ، والغزالي ، وهؤلاء أنكروا نصه في مسألة الأمة ، ولإنكاره وجه ظاهر ، لأنه نص في عيون المسائل أنه إذا نكح أمة ، ثم قال : نكحتها وأنا أجد طولا ، فصدقه مولاها ، فسخ النكاح بلا مهر ، فإن كان دخل ، فعليه مهر مثلها . وإن كذبه ، فسخ النكاح بإقراره ، ولم يصدق على المهر ، دخل أم لم يدخل . هذا لفظه وهو يوافق قول العراقيين .

قلت : الأصح أو الصحيح ، قول العراقيين . وحكى العراقيون وجها : أنه يقبل قوله في المهر ، فلا يلزمه . وعلى هذا قالوا : إن كان اعترافه قبل الدخول ، فلا شيء عليه . وإن كان بعده ، فعليه أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل ، ولا خلاف أنها إذا ماتت لا يرثها . وإن مات قبلها ، فإن قلنا : القول قوله ولم يكن حلف ، فيحلف وارثه : لا يعلمه تزوجها بشهادة عدلين ، ولا إرث لها . وإن قلنا : القول قولها ، حلفت أنه عقد بعدلين وورثت .

ولو قالت : عقدنا بفاسقين ، فقال : بل بعدلين . فأيهما يقبل ؟ وجهان . الأصح : قوله . فإن مات ، لم ترثه ، وإن مات [ ص: 49 ] أو طلقها قبل الدخول ، فلا مهر ، لإنكارها ، وبعد الدخول لها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل . - والله أعلم - .

فرع

استتابة المستورين قبل العقد ، احتياط واستظهار ، وتوبة المعلن بالفسق حينئذ ، هل تلحقه بالمستور ؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد . والأصح : المنع . فإن ألحقنا فعاد إلى فجوره على قرب ، قال الإمام : فالظاهر أن تلك التوبة تكون ساقطة ، قال : وفيه احتمال .

فرع

الاحتياط ، الإشهاد على رضى المرأة حيث يشترط رضاها ، لكنه ليس بشرط في صحة النكاح .

قلت : ومن مسائل الفصل ، أنه لا يشترط إحضار الشاهدين ، بل إذا حضرا بأنفسهما ، وسمعا الإيجاب والقبول ، صح وإن لم يسمعا الصداق . ولو عقد بشهادة خنثيين ، ثم بانا رجلين ، قال القاضي أبو الفتوح : احتمل أن يكون في انعقاده وجهان بناء على ما لو صلى رجل خلفه فبان رجلا . هذا كلامه . والانعقاد هنا هو الأصح ، لأن عدم جزم النية يؤثر في الصلاة . - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية