صفحة جزء
[ ص: 41 ] باب

الأواني

هي ثلاثة أقسام .

الأول : المتخذ من جلد ، والجلد يحكم بطهارته في حالين . أحدهما : إذا ذكي مأكول اللحم ، فجلده باق على طهارته كلحمه ، ولو ذكي غير مأكول ، فجلده نجس كلحمه .

قلت : ولو ذبح حمارا زمنا ، أو غيره مما لا يؤكل ، للتوصل إلى دبغ جلده ، لم يجز عندنا . والله أعلم .

والثاني : أن يدبغ جلد الميتة ، فيطهر بالدباغ من مأكول اللحم وغيره ، إلا جلد كلب ، أو خنزير ، وفرعهما ، فإنه لا يطهر قطعا ، وإذا قلنا بالقديم : إن الآدمي ينجس بالموت ، طهر جلده بالدباغ على الأصح ، ولنا وجه شاذ منكر في ( التتمة ) أن جلد الميتة لا ينجس ، وإنما أمر بالدبغ لإزالة الزهومة ، ثم قال الأصحاب : يعتبر في الدباغ ثلاثة أشياء : نزع الفضول ، وتطييب الجلد ، وصيرورته بحيث لو وقع في الماء ، لم يعد الفساد والنتن .

ومن الأصحاب من يقتصر على نزع الفضول ، لاستلزامه الطيب والصيرورة .

قالوا : ويكون الدباغ بالأشياء الحريفة ، كالشب ، والقرظ ، وقشور الرمان ، والعفص . وفي وجه : لا يحصل إلا بشب أو قرظ ، وهو غلط ، ويحصل بمتنجس ، وبنجس العين ، كذرق حمام على الأصح فيهما ، ولا يكفي التجميد بالتراب ، أو [ ص: 42 ] الشمس على الصحيح . ولا يجب استعمال الماء في أثناء الدباغ على الأصح ، ويجب الغسل بعده إن دبغ بنجس قطعا ، وكذا إن دبغ بطاهر على الأصح ، فعلى هذا إذا لم يغسله ، يكون طاهر العين ، كثوب نجس ، بخلاف ما إذا أوجبنا الماء في أثناء الدباغ فلم يستعمله ، فإنه يكون نجس العين ، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء ، أم لا بد من استعمال الأدوية ثانيا ؟ وجهان .

قلت : أصحهما الثاني . وبه قطع الشيخ أبو محمد ، والآخر : احتمال لإمام الحرمين ، والمراد نقعه في ماء كثير . والله أعلم .

وإذا أوجبنا الغسل بعد الدباغ ، اشترط سلامته من التغير بأدوية الدباغ ، ولا يشترط ذلك إذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ .

فرع

يطهر بالدباغ ظاهر الجلد قطعا ، وباطنه على المشهور الجديد . فيجوز بيعه ، ويستعمل في المائعات ، ويصلى فيه . ومنع القديم : طهارة الباطن ، والصلاة ، والبيع ، واستعماله في المائع .

قلت : أنكر جماهير العراقيين ، وكثيرون من الخراسانيين هذا القديم ، وقطعوا بطهارة الباطن ، وما يترتب عليه . وهذا هو الصواب . والله أعلم .

ويجوز أكل المدبوغ على الجديد ، إن كان مأكول اللحم ، وإلا فلا ، على المذهب .

قلت : الأظهر عند الأكثرين تحريم أكل جلد المأكول ، وقد بقي من هذا القسم مسائل منها : الدباغ بالملح .

[ ص: 43 ] نص الشافعي - رحمه الله - : أنه لا يحصل ، وبه قطع أبو علي الطبري ، وصاحب ( الشامل ) وقطع إمام الحرمين بالحصول ، ولا يفتقر الدباغ إلى فعل . فلو ألقت الريح الجلد في مدبغة ، فاندبغ ، طهر ، ويجوز استعمال جلد الميتة قبل الدباغ في اليابسات ، لكن يكره ، ويجوز هبته ، كما تجوز الوصية . وإذا قلنا : لا يجوز بيعه بعد الدباغ ، ففي إجارته وجهان . الصحيح : المنع . والله أعلم .

القسم الثاني : الشعر والعظم ; أما الشعر ، والصوف ، والوبر ، والريش ، فينجس بالموت على الأظهر ، وكذا العظم على المذهب ، وقيل : كالشعر . فإن نجسنا الشعر ، ففي شعر الآدمي قولان . أو وجهان . بناء على نجاسته بالموت . والأصح أنه لا ينجس شعره بالموت ، ولا بالإبانة . فإن نجسنا ، عفي عن شعرة وشعرتين . فإن كثر ، لم يعف .

قلت : قال أصحابنا : يعفى عن اليسير من الشعر النجس في الماء ، والثوب الذي يصلى فيه ، وضبط اليسير : العرف . وقال إمام الحرمين : لعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال . واختلف أصحابنا في هذا العفو ، هل يختص بشعر الآدمي ، أم يعم الجميع ؟ والأصح : التعميم . والله أعلم .

وإذا نجسنا شعر الآدمي ، فالصحيح : طهارة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا نجسنا شعر غير الآدمي ، فدبغ الجلد وعليه شعر ، لم يطهر الشعر على الأظهر ، وإذا لم تنجس الشعور ، ففي شعر الكلب والخنزير وفرعهما وجهان . الصحيح : النجاسة . سواء انفصل في حياته أو بعد موته . وأما الإناء من العظم ، فإن كان طاهرا ، [ ص: 44 ] جاز استعماله ، وإلا فلا . وطهارته لا تحصل إلا بالذكاة في مأكول اللحم ، إلا إذا قلنا ( بالضعيف ) : إن عظام الميتة طاهرة .

قلت : قال أصحابنا : ويجوز استعمال الإناء من العظم النجس في الأشياء اليابسة ، لكن يكره ، كما قلنا في جلد الميتة قبل الدباغ ، ويجوز إيقاد عظام الميتة . ولو رأى شعرا لم يعلم طهارته ، فإن علم أنه من مأكول اللحم ، فطاهر ، أو من غيره ، فنجس . أو لم يعلم ، فوجهان . أصحهما : الطهارة ، ولو باع جلد ميتة بعد دباغه وعليه شعر ، وقلنا : يجوز بيع الجلد ، ولا يطهر الشعر بالدباغ ، فإن قال : بعتك الجلد دون شعره صح ، ولو قال : الجلد مع شعره ، ففي صحة بيع الجلد القولان في تفريق الصفقة . وإن قال : بعتك هذا وأطلق صح . وقيل : وجهان . والله أعلم .

القسم الثالث : إناء الذهب والفضة ; يكره استعماله كراهة تنزيه في ( القديم ) وكراهة تحريم في ( الجديد ) وهو المشهور ، وقطع به جماعة . وعليه التفريع ، ويستوي في التحريم الرجال والنساء ، وسواء استعماله في الأكل ، والشرب ، والوضوء ، والأكل بملعقة الفضة ، والتطيب بماء الورد من قارورة الفضة ، والتجمر بمجمرة الفضة إذا احتوى عليها . ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد ، ويحرم اتخاذ الإناء من غير استعمال على الأصح ، فلا يستحق صانعه أجرة ، ولا أرش على كاسره . وعلى الثاني : لا يحرم ، فتجب الأجرة والأرش ، ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بها على الصحيح . ويحرم الإناء الصغير ، كالمكحلة ، وظرف الغالية من الفضة على الصحيح ، ولا يحرم الأواني من الجواهر النفيسة ، كالفيروزج ، والياقوت ، والزبرجد ، ونحوها على الأظهر . ولا خلاف أنه : لا يحرم ما نفاسته لصنعته ، ولا يكره لو اتخذ إناء من حديد ، أو غيره ، وموهه بذهب ، أو فضة ، إن كان يحصل منه شيء بالعرض على النار ، حرم استعماله ، وإلا ; [ ص: 45 ] فوجهان . ولو اتخذه من ذهب ، أو فضة ، وموهه بنحاس أو غيره ، فعلى الوجهين . ولو غشي ظاهره وباطنه بالنحاس ، فطريقان .

قال إمام الحرمين : لا يحرم . وقال غيره : على الوجهين .

قلت : الأصح من الوجهين : لا يحرم . والله أعلم .

فرع

المضبب بالفضة ، فيه أوجه .

أحدها : إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة ، لا يحرم استعماله ، ولا يكره . وإن كانت كبيرة فوق الحاجة ; حرم . وإن كانت صغيرة فوق الحاجة أو كبيرة قدر الحاجة ، فوجهان . الأصح : يكره . والثاني : يحرم . والوجه الثاني : إن كانت الضبة تلقى فم الشارب حرم ، وإلا فلا . والثالث : يكره ، ولا يحرم بحال . والرابع : يحرم في جميع الأحوال .

قلت : أصح الأوجه وأشهرها ، الأول ، وبه قطع أكثر العراقيين . والله أعلم .

ومعنى الحاجة : غرض إصلاح موضع الكسر ، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير الفضة ، فإن الاضطرار يبيح استعمال أصل إناء الذهب والفضة ، وفي ضبط الصغر والكبر أوجه .

أحدها : يرجع فيه إلى العرف . والثاني : ما يلمع على بعد كبير ، وما لا فصغير . والثالث : ما استوعب جزءا من الإناء ، كأسفله ، أو عروته ، أو شفته كبير ، وما لا فصغير .

قلت : الثالث : أشهر . والأول : أصح . والله أعلم .

[ ص: 46 ] وأما المضبب بذهب ; فقطع الشيخ أبو إسحاق بتحريمه بكل حال .

وقال الجمهور : هو كالفضة .

قلت : قد قطع بتحريم المضبب بالذهب - بكل حال - جماعات غير الشيخ أبي إسحاق ، منهم صاحب ( الحاوي ) وأبو العباس الجرجاني والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي والعبدري ونقله صاحب ( التهذيب ) عن العراقيين مطلقا . وهذا هو الصحيح . والله أعلم .

وهل يسوى بين الذهب والفضة في الصغر والكبر ؟ قياس الباب : نعم .

وعن الشيخ أبي محمد : لا ، فإن قليل الذهب ككثير الفضة ، فيقوم ضبة الفضة المباحة ، ويباح قدرها من الذهب ; ولو اتخذ للإناء حلقة فضة ، أو سلسلة ، أو رأسا . قال في ( التهذيب ) : يجوز ، وفيه نظر واحتمال .

قلت : قد وافق صاحب ( التهذيب ) جماعة ، ولا نعلم فيه خلافا . قال أصحابنا : لو شرب بكفيه وفي أصبعه خاتم ، أو في فمه دراهم ، أو في الإناء الذي شرب منه ، لم يكره . ولو أثبت الدراهم في الإناء بالمسامير ، فهو كالضبة . وقطع القاضي حسين بجوازه . ولو باع إناء الذهب أو الفضة ، صح بيعه . ولو توضأ منه ، صح وضوءه ، وعصى بالفعل . ولو أكل ، أو شرب ، عصى بالفعل ، وكان الطعام والشراب حلالا . وطريقه في اجتناب المعصية ، أن يصب الطعام وغيره في إناء آخر ، ويستعمل المصبوب فيه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية