صفحة جزء
[ ص: 259 ] الحكم الثاني : تسليم الصداق . فلو أخر تسليمه بعذر أو بغيره ، وطلب تسليم نفسها ، فلها الامتناع [ حتى يسلم جميع الصداق إن كان عينا أو دينا حالا ، وإن كان مؤجلا ، فليس لها الامتناع ، فإن حل الأجل قبل تسليمها فليس لها الامتناع ] أيضا على الأصح ، وبه قطع الشيخ أبو حامد وأصحابه ، والبغوي ، والمتولي ، وأكثر الأصحاب . وقيل : لها ، وبه قال القاضي أبو الطيب ، واختاره الحناطي والروياني ; لأنها تستحق الآن المطالبة . ولو كانت المرأة صغيرة أو مجنونة ، فلوليها حبسها حتى تقبض الصداق الحال . فلو رأى المصلحة في التسليم ، فله ذلك . ولو اختلف الزوجان ، فقال : لا أسلم الصداق حتى تسلمي نفسك ، وقالت : لا أسلمها حتى تسلمه ، فثلاثة أقوال .

أظهرها : يجبران ، بأن يؤمر بوضع الصداق عند عدل ، وتؤمر بالتمكين . فإذا مكنت ، سلم العدل الصداق إليها . والثاني : لا يجبر واحد منهما ، بل إن بادر أحدهما فسلم ، أجبر الآخر . والثالث : يجبر الزوج أولا ، فإذا سلم ، سلمت . وذهبت طائفة كبيرة إلى إنكار هذا القول الثالث . ومن أثبته قال : موضعه ما إذا كانت متهيئة للاستمتاع . أما إذا كانت ممنوعة بحبس أو مرض ، فلا يلزم تسليم الصداق . وإن كانت صغيرة لا تصلح للجماع ، فهل يلزمه التسليم ؟ قولان . ولو سلمت مثل هذه الصغيرة إلى زوجها ، هل عليه تسليم المهر ؟ قولان كالنفقة . أظهرهما : المنع . وقيل بالمنع قطعا ; لأن النفقة للحبس عليه وهو موجود ، والمهر للاستمتاع وهو متعذر . وقيل بالإيجاب قطعا ; لأن المهر في مقابلة بضع وهو مملوك في الحال ، والنفقة للتمكين وهو مفقود .

ويجري الخلاف في مطالبة الولي لو كان الزوج صغيرا ، وإن كان الزوج صغيرا وهي كبيرة ، فالأظهر أن لها طلب المهر كالنفقة . وإذا قلنا : يبدأ بالزوج أو [ ص: 260 ] يجبران ، فقالت : سلم المهر لأسلم نفسي ، لزمه النفقة من حينئذ . وإن قلنا : لا يجبر واحد منهما ، فلا نفقة لها حتى تمكن .

فرع

إذا بادرت فمكنت ، فلها طلب الصداق على الأقوال كلها ، ثم إن لم يجر وطء ، فلها العود إلى الامتناع ، ويكون الحكم كما قبل التمكين . وإن وطئ ، فليس لها بعده الامتناع على الصحيح ، كما لو تبرع البائع فسلم المبيع قبل قبض الثمن ، فليس له أخذه وحبسه . ولو وطئها مكرهة ، فلها الامتناع بعده على الأصح . ويجري الوجهان ، فيما لو سلم الولي صغيرة أو مجنونة قبل قبض صداقها إذا بلغت أو أفاقت بعد الدخول ، فلو بلغت أو أفاقت قبله ، فلها الامتناع قطعا . ولو بادر الزوج فسلم الصداق ، لزمها التمكين إذا طلبها . وكذا لو كان الصداق مؤجلا فإن امتنعت بلا عذر ، فله الاسترداد وإن قلنا : يجبر أولا ; لأن الإجبار بشرط التمكين . وإن قلنا : لا يجبر ، فليس له الاسترداد على الأصح ; لأنه تبرع بالمبادرة كمعجل الدين المؤجل . وقيل : له ذلك لعدم حصول الغرض . وقال القاضي حسين : إن كانت معذورة حين سلم ، فزال العذر وامتنعت ، استرد ; لأنه سلم راجيا التمكين ، فيشبه هذا الخلاف وجهين ذكرا فيما لو سلم مهر صغيرة لا تصلح للجماع عالما بحالها أو جاهلا وقلنا بالأظهر : إنه لا يجب تسليم مهرها ، هل له الاسترداد ؟

فرع

إذا استمهلت بعد تسليم الصداق ، أمهلت لتتهيأ بالتنظيف والاستحداد ، وإزالة [ ص: 261 ] الأوساخ على ما يراه القاضي من يوم ويومين ، وغاية المهلة ثلاثة . وظاهر كلام الغزالي في الوسيط ، إثبات خلاف في أن المهلة بقدر ما تتهيأ ، أم تقدر بثلاثة أيام ؟ والمذهب خلافه ثم المفهوم من كلام الأكثرين ، أنه يجب الإمهال إذا استمهلت في العدة ، أنه ليس بواجب . وعن نصه في الإملاء قول : إنه لا إمهال أصلا . والمذهب الأول ، ولا تمهل لتهيئة الجهاز ، ولا لانتظار السمن ونحوهما ، ولا بسبب الحيض والنفاس ، بل تسلم لسائر الاستمتاعات كالرتقاء والقرناء . وإن كانت صغيرة لا تحتمل الجماع ، أو كان بها مرض أو هزال تتضرر بالوطء معه ، أمهلت إلى زوال المانع . ويكره للولي تسليم هذه الصغيرة ، ولا يجوز للزوج وطؤها إلى أن تصير محتملة . ولو قال الزوج : سلموا إلي الصغيرة أو المريضة ولا أقربها إلى أن يزول ما بها ، قال البغوي : يجاب في المريضة دون الصغيرة ; لأن الأقارب أحق بالحضانة وفي " الوسيط " أنه لا يجاب في الصورتين ; لأنه ربما وطئ فتتضرران ، بخلاف الحائض ، فإنها لا تتضرر لو وطئ .

وله أن يمتنع من تسلم الصغيرة ; لأنه نكح للاستمتاع لا للحضانة . وفي المريضة وجهان . قال في " الشامل " : الأقيس أنه ليس له الامتناع ، كما ليس له أن يخرجها من داره إذا مرضت .

وإذا تسلم المريضة ، فعليه النفقة لا كالصغيرة ; لأن المرض عارض متوقع الزوال . ولو كانت المرأة نحيفة بالجبلة ، فليس لها الامتناع بهذا العذر ; لأنه غير متوقع الزوال كالرتقاء . ثم إن خافت الإفضاء لو وطئت لعبالة الزوج ، فليس عليها التمكين من الوطء . قال الأئمة : وليس له الفسخ ، بخلاف الرتق ; لأنه يمنع الوطء مطلقا ، والنحافة لا تمنع وطء نحيف مثلها ، وليس ذلك بعيب أيضا . ولو وطئ زوجته فأفضاها ، فليس له العود إلى وطئها حتى تبرأ البرء الذي لو عاد [ ص: 262 ] لم يخدشها ، هذا نص الشافعي ، رضي الله عنه . فإن اختلفا في حصول البرء ، فأنكرته ، قال الشافعي ، رحمه الله : القول قولها قال المتولي : المراد بالنص إذا ادعت بقاء ألم بعد الاندمال ; لأنه لا يعرف إلا منها . أما إذا ادعت بقاء الجرح ، وأنكرت أصل الاندمال ، فتعرض على أربع نسوة ثقات ، ويعمل بقولهن . ومنهم من حمل النص على ما إذا لم يمض من الزمان ما يغلب فيه البرء ، فإن مضى راجعنا النسوة . ومنهم من أطلق القول بمراجعتهن عند الاختلاف . وعلى هذا ، فالنص على ما إذا لم يكن نسوة ثقات .

فرع

مسائل عن مجرد الحناطي

اختلف الزوج وأبو الزوجة فقال أحدهما : هي صغيرة لا تحتمل الجماع ، وقال الآخر : تحتمله . فهل القول قول منكر الاحتمال ، أم تعرض على أربع نسوة ، أو رجلين من المحارم ؟ وجهان .

قلت : أصحهما : الثاني . والله أعلم .

ولو قال الزوج : زوجتي حية فسلمها وقال : لا بل ماتت ، فالقول قول الزوج . ولو تزوج رجل ببغداد امرأة بالكوفة ، وجرى العقد ببغداد ، فالاعتبار بموضع العقد ، فتسلم نفسها ببغداد ، ولا نفقة لها قبل أن يحصل ببغداد . ولو خرج الزوج إلى الموصل وبعث إليها من يحملها من الكوفة إلى الموصل ، فنفقتها من بغداد إلى الموصل على الزوج .

[ ص: 263 ] الحكم الثالث : التقرير ، فالمهر الواجب بالنكاح أو بالفرض ، يستقر بطريقين .

أحدهما : الوطء وإن كان حراما لوقوعه في الحيض أو الإحرام ; لأن وطء الشبهة يوجب المهر ابتداء ، فذا أولى بالتقرير ، ويستقر بوطأة واحدة .

الطريق الثاني : موت أحد الزوجين ، والموت وإن أطلقوا أنه مقرر ، فيستثنى منه إذا قتل السيد أمته المزوجة ، فإنه يسقط مهرها على المذهب . ومنهم من ألحق بهذه الصورة غيرها كما ذكرناه في أول الباب الحادي عشر .

فصل

الخلوة لا تقرر المهر ، ولا تؤثر فيه على الجديد وهو الأظهر . وعلى هذا ، لو اتفقا على الخلوة وادعت الإصابة ، لم يترجح جانبها ، بل القول قوله بيمينه . وفي القديم ، الخلوة مؤثرة ، وفي أثرها قولان . أحدهما : أثرها تصديق المرأة إذا ادعت الإصابة ، ولا يتقرر المهر بمجردها ، سواء طال زمنها أم قصر . وأظهرهما : أنها كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة . وعلى هذا ، تثبت الرجعة على الأصح . وهل يشترط على القديم في تقرر المهر بالخلوة أن لا يكون مانع شرعي كحيض وإحرام وصوم ؟ فيه وجهان . ويشترط أن لا يكون مانع حسي ، كرتق أو قرن فيها ، أو جب أو عنة فيه قطعا . وإذا قلنا : مجرد الخلوة لا تقرر ، ففي الوطء فيما دون الفرج وجهان ، كثبوت المصاهرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية