صفحة جزء
[ ص: 367 ] الباب الثاني في الشقاق .

الوحشة والشقاق بين الزوجين قد يظهر سببه بأن تنشز أو يتعدى هو عليها ، وقد لا يظهر ويشكل الحال في أن المتعدي أيهما أو كلاهما ، فهذه ثلاثة أحوال .

الأول : أن تتعدى هي . قال الله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن .

[ النساء : 33 ] والمراد بالوعظ ، أن يقول : اتقي الله في الحق الواجب عليك ، واحذري العقوبة ، ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة والقسم ، وأما الهجران ، فهجرها في المضجع ، وأما الهجران في الكلام ، فممنوع .

وفيما علق عن الإمام ، حكاية وجهين في أنه محرم أم مكروه ؟ قال : وعندي أنه لا يحرم ترك الكلام أبدا ، لكن إذا كلم فعليه أن يجيب ، وهو كابتداء السلام وجوابه ، ولمن ذهب إلى التحريم أن يقول : لا منع من ترك الكلام بلا قصد ، فأما بقصد الهجران ، فحرام ، كما أن الطيب ونحوه إذا تركه الإنسان بلا قصد لا يأثم .

ولو قصد بتركه الإحداد أثم ، وحكي عن نص الشافعي ، أنه لو هجرها بالكلام ، لم يزد على ثلاثة أيام ، فإن زاد أثم .

قلت : الصواب ، الجزم بتحريم الهجران فيما زاد على ثلاثة أيام ، وعدم التحريم في الثلاثة ، للحديث الصحيح " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " . قال أصحابنا وغيرهم : هذا في الهجران لغير عذر شرعي ، فإن كان عذر ، بأن كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما ، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور ، فلا تحريم .

وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن [ ص: 368 ] مالك وصاحبيه ، ونهيه صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلامهم ، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا . والله أعلم .

وأما الضرب ، فهو ضرب تأديب وتعزير ، وقدره نذكره في بابه إن شاء الله تعالى .

وينبغي أن لا يكون مدميا ، ولا مبرحا ، ولا على الوجه والمهالك . فإن أفضى إلى تلف ، وجب الغرم ؛ لأنه تبين أنه إتلاف لا إصلاح ، ثم الزوج وإن جاز له الضرب ، فالأولى له العفو ، بخلاف الولي ، فإنه لا يترك ضرب التأديب للصبي ؛ لأن مصلحته للصبي ، وفي الحديث النهي عن ضرب النساء .

وأشار الشافعي رحمه الله إلى تأويلين له . أحدهما : أنه منسوخ بالآية أو حديث آخر بضربهن . والثاني : حمل النهي على الكراهة ، أو ترك الأولى ، وقد يحمل النهي على الحال الذي لم يوجد فيه السبب المجوز للضرب .

قلت : هذا التأويل الأخير هو المختار ، فإن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وعلمنا التاريخ . والله أعلم .

إذا عرفت هذا ، فلتعدي المرأة ثلاث مراتب . إحداها : أن يوجد منها أمارات النشوز قولا أو فعلا ، بأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان لينا ، أو يجد منها إعراضا وعبوسا بعد طلاقة ولطف ، ففي هذه المرتبة ، يعظها ولا يضربها ولا يهجرها .

[ ص: 369 ] الثانية : أن يتحقق نشوزها ، لكن لا يتكرر ، ولا يظهر إصرارها عليه ، فيعظها ويهجرها . وفي جواز الضرب قولان ، رجح الشيخ أبو حامد والمحاملي المنع ، وصاحبا " المهذب " و " الشامل " الجواز .

قلت : رجح الرافعي في " المحرر " المنع ، والموافق لظاهر القرآن الجواز وهو المختار . والله أعلم .

الثالثة : أن يتكرر وتصر عليه ، فله الهجران والضرب بلا خلاف ، هذه هي الطريقة المعتمدة في المراتب الثلاث . وحكى ابن كج قولا في جواز الهجران والضرب عند خوف النشوز ، لظاهر الآية . وحكى الحناطي في حالة ظهور النشوز ، ثلاثة أقوال .

أحدها : له الوعظ والهجران والضرب . والثاني : يتخير بينها ولا يجمع . والثالث : يعظها . فإن لم تتعظ هجرها ، فإن لم تنزجر ضربها .

فرع

فيما تصير به ناشزة .

فمنه الخروج من المسكن ، والامتناع من مساكنته ، ومنع الاستمتاع بحيث يحتاج في ردها إلى الطاعة إلى تعب ، ولا أثر لامتناع الدلال ، وليس من النشوز الشتم وبذاء اللسان ، لكنها تأثم بإيذائه ، وتستحق التأديب ، وهل يؤدبها الزوج ، أم يرفع إلى القاضي ليؤدبها ؟ وجهان .

ولو مكنت من الجماع ومنعت من سائر الاستمتاعات ، فهل هو نشوز يسقط النفقة ؟ وجهان .

[ ص: 370 ] قلت : أصحهما نعم . والأصح من الوجهين في تأديبها ، أنه يؤدبها بنفسه ؛ لأن في رفعها إلى القاضي مشقة وعارا وتنكيدا للاستمتاع فيما بعد ، وتوحيشا للقلوب ، بخلاف ما لو شتمت أجنبيا . والله أعلم .

الحال الثاني : أن يتعدى الرجل ، فينظر ، إن منعها حقا كنفقة أو قسم ، ألزمه الحاكم توفية حقها . ولو كان يسيء خلقه ويؤذيها ويضربها بلا سبب ، ففي " التتمة " أن الحاكم ينهاه . فإن عاد ، عزره . وفي " الشامل " وغيره ، أنه يسكنهما بجنب ثقة ينظرهما ، ويمنعه من التعدي ، والنقلان متقاربان .

وذكروا أنه لو كان التعدي منهما جميعا ، فكذلك يفعل الحاكم ، ولم يتعرضوا للحيلولة . وقال الغزالي : يحال بينهما حتى يعودا إلى العدل . قال : ولا يعتمد قوله في العدل ، وإنما يعتمد قولها وشهادة القرائن .

وإن كان لا يمنعها حقا ، ولا يؤذيها بضرب ونحوه ، لكن يكره صحبتها لمرض أو كبر ، ولا يدعوها إلى فراشه ، أو يهم بطلاقها ، فلا شيء عليه ويستحب لها أن تسترضيه بترك بعض حقها من قسم أو نفقة ، وكذا لو كانت هي تشكوه وتكره صحبته ، فيحسن أن يبرها ويستميل قلبها بما تيسر له .

الحال الثالث : إذا نسب كل واحد الآخر إلى التعدي ، وسوء الخلق ، وقبح السيرة ، ولم يعرف الحاكم المتعدي منهما ، يعرف حالهما من ثقة في جوارهما خبير بهما ، فإن لم يكن أسكنهما بجنب ثقة يبحث عن حالهما وينهيها إليه .

فإن علم الظالم ، منعه ، هكذا أطلقوه ، وظاهره الاكتفاء بقول عدل ، ولا يخلو عن احتمال . وإذا اشتد شقاقهما ، وداما على السباب الفاحش والتضارب ، بعث القاضي [ ص: 371 ] حكما من أهله وحكما من أهلها لينظرا في أمرهما ويصلحا بينهما ، أو يفرقا إن عسر الإصلاح .

وهل بعث الحكمين واجب ؟ قال البغوي : عليه بعثهما ، وظاهره الوجوب ، وحجته الآية . وقال الروياني : يستحب .

قلت : الأصح أو الصحيح : الوجوب . والله أعلم .

ثم المبعوثان ، وكيلان للزوجين أم حاكمان موليان من جهة الحاكم ؟ فيه قولان .

أظهرهما : وكيلان ، فعلى هذا يوكل الزوج حكمه في التطليق عليه وقبول الخلع ، والمرأة حكمها ببذل العوض وقبول الطلاق ، ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما .

فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء ، أدب القاضي الظالم ، واستوفى حق المظلوم . وإذا قلنا : هما حكمان ، لم يشترط رضى الزوجين في بعثهما . وإذا رأى حكم الزوج الطلاق ، استقل به ولا يزيد على طلقة ، لكن إن راجعها الزوج وداما على الشقاق ، طلق ثانية وثالثة .

وإن رأى الخلع ووافقه حكمها ، تخالعا وإن لم يرض الزوجان . ولو رأى الحكمان أن تترك المرأة بعض حقها من قسم ونفقة ، أو أن لا يتسرى أو لا ينكح عليها غيرها ، لم يلزمه ذلك بلا خلاف .

وإن كان لأحدهما على الآخر مال متعلق بالنكاح ، أو غير متعلق ، لم يجز للحكم استيفاؤه من غير رضى صاحبه بلا خلاف ، ويشترط في المبعوثين التكليف قطعا ، ويشترط العدالة والإسلام والحرية على المذهب ، ويشترط الاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما .

وأشار الغزالي إلى خلاف فيه . ويشترط الذكورة إن قلنا : حكمان ، وإن قلنا : [ ص: 372 ] وكيلان ، قال الحناطي : لا يشترط في وكيلها ، وفي وكيله وجهان ، ولا يشترط فيهما الاجتهاد وإن قلنا : حكمان ، ولا كونهما من أهل الزوجين ، لكن أهلهما أولى . ولو كان القاضي من أهل أحدهما ، فله أن يذهب بنفسه ، وفيما علق عن الإمام اشتراط كونهما من أهلهما ، و [ لا ] يجوز الاقتصار على حكم واحد على الأصح ، وبه قطع ابن كج ، وينبغي أن يخلو حكمه به وحكمها بها ، فيعرفا ما عندهما ، وما فيه رغبتهما ، فإذا اجتمعا ، لم يخف أحدهما عن الآخر شيئا ، وعملا ما رأياه صوابا .

ولو اختلف رأي الحكمين ، بعث آخرين حتى يجتمعا على شيء ، ذكره الحناطي . ولو جن أحد الزوجين ، أو أغمي عليه ، لم يجز بعثهما بعده ، وإن جن بعد استعلام الحكمين رأيه ، لم يجز تنفيذ الأمر .

وقيل : إن قلنا : حاكمان ، لم يؤثر جنون أحدهما ، قاله ابن كج . وقيل : الإغماء لا يؤثر إن قلنا : وكيلان كالنوم ، حكاه الحناطي ، وهذا ينبغي أن يجيء في كل وكالة ، والصحيح الأول .

ولو غاب أحد الزوجين بعد بعث الحكمين ، نفذ الأمر إن قلنا : وكيلان ، وإلا فلا على الصحيح .

فرع

ذكر الحناطي ، أنه لو رأى أحد الحكمين الإصلاح ، والآخر التفريق ففرق ، نفذ التفريق إن جوزنا الاقتصار على حكم واحد .

[ ص: 373 ] فرع

وكل رجلا فقال : إذا أخذت مالي منها فطلقها ، أو خالعها ، أو خذ مالي ثم طلقها ، لم يجز تقديم الطلاق على أخذ المال . قال أبو الفرج الزاز : وكذا لو قال : خالعها على أن تأخذ مالي منها . ولو قال : خذ مالي وطلقها ، فهل يشترط تقديم أخذ المال ؟ وجهان .

أصحهما عند البغوي : نعم . ولو قال : طلقها ثم خذ ، جاز تقديم أخذ المال ؛ لأنه زيادة خير وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية