صفحة جزء
الطرف الثاني في الأفعال القائمة مقام اللفظ :

الإشارة والكتب يدلان على الطلاق ، فأما الإشارة ، فمعتبرة من الأخرس في وقوع الطلاق ، وتقوم إشارته مقام عبارة الناطق في جميع العقود والحلول والأقارير والدعاوى ، لكن في شهادته خلاف . وإذا أشار في صلاته بطلاق أو بيع أو غيرهما ، صح العقد قطعا ولا تبطل صلاته على الصحيح ، ثم منهم من أدار الحكم على إشارته المفهومة ، وأوقع الطلاق بها ، نوى أم لم ينو ، وكذا فصل البغوي .

وقال الإمام وآخرون : إشارته منقسمة إلى صريحة مغنية عن النية ، وهي التي يفهم منها الطلاق كل واقف عليها ، وإلى كناية مفتقرة إلى النية ، وهي التي يفهم الطلاق بها المخصوص بالفطنة والذكاء . ولو بالغ في الإشارة ، ثم ادعى أنه لم يرد الطلاق وأفهم هذه الدعوى . قال الإمام : هو كما لو فسر اللفظة الشائعة في الطلاق بغيره .

فرع

سواء في اعتبار إشارة الأخرس ، قدر على الكتابة أم لا ، هكذا قاله الإمام ويوافقه إطلاق الجمهور . وقال المتولي : إنما تعتبر إشارته إذا لم يقدر على [ ص: 40 ] كتابة مفهمة . فالكتابة هي المعتبرة ، لأنها أضبط ، وينبغي أن يكتب مع ذلك : إني قصدت الطلاق .

فرع

إذا كتب الأخرس الطلاق ، فثلاثة أوجه . الصحيح أنه كناية ، فيقع الطلاق إذا نوى ، وإن لم يشر معها ، والثاني : لا بد من الإشارة ، والثالث : هو صريح ، قاله الشيخ أبو محمد .

فصل

القادر على النطق ، إشارته بالطلاق ليست صريحة ، وإن أفهم بها كل أحد ، وليست كناية أيضا على الأصح . ولو قال لإحدى زوجتيه : أنت طالق وهذه ، ففي افتقار طلاق الثانية إلى نية ، وجهان . ولو قال : امرأتي طالق ، وأشار إلى إحداهما ، ثم قال : أردت الأخرى ، فوجهان . أحدهما : يقبل . والثاني : لا يقبل ، بل تطلقان جميعا .

فصل

إذا كتب القادر بطلاق زوجته ، نظر ، إن قرأ ما كتبه وتلفظ به في حال الكتابة ، أو بعدها ، طلقت ، وإن لم يتلفظ ، نظر ، إن لم ينو إيقاع الطلاق ، لم تطلق على الصحيح ، وقيل : تطلق وتكون الكتابة صريحا ، وليس بشيء . وإن نوى ، ففيه أقوال وأوجه وطرق ، مختصرها ثلاثة أقوال . أظهرها : تطلق مطلقا ، والثاني : لا ، والثالث : تطلق إن كانت غائبة عن المجلس ، وإلا فلا . وهذا الخلاف جار في سائر التصرفات التي لا تفتقر إلى قبول كالإعتاق والإبراء ، والعفو عن القصاص وغيرها بلا فرق .

[ ص: 41 ] وأما ما يحتاج إلى قبول ، فهو نكاح وغيره ، أما غيره كالبيع والهبة والإجارة ، ففي انعقادها بالكتب خلاف مرتب على الطلاق ، وما في معناه ، إن لم يعتبر الكتب هناك ، فهنا أولى ، وإلا فوجهان ، للخلاف في انعقاد هذه التصرفات بالكنايات ، ولأن القبول فيها شرط فيتأخر عن الإيجاب ، والأشبه الانعقاد . ومن قال به ، جعل تمام الإيجاب بوصول الكتاب ، حتى يشترط اتصال القبول به . وفي وجه : لا يشترط ذلك ، بل يراعى التواصل اللائق بين الكتابين ، وقد أشرنا إلى هذا كله في أول البيع ، وذكرنا عن بعضهم ، أن المشتري لو قبل بالقول ، كان أقوى من أن يكتب ، وكذا ذكره الإمام .

وأما النكاح ، ففيه خلاف مرتب ، والمذهب منعه بسبب الشهادة ، فلا اطلاع للشهود على النية . ولو قالا بعد المكاتبة : نوينا ، كان شهادة على إقرارهما لا على نفس العقد ، ومن جوز اعتمد الحاجة . وإذا قلنا : ينعقد البيع والنكاح بالمكاتبة ، فذلك في حال الغيبة ، فأما عند الحضور ، فخلاف مرتب .

وحيث حكمنا بانعقاد النكاح بالمكاتبة يكتب : زوجتك بنتي ، ويحضر الكتاب عدلان ، ولا يشترط أن يحضرهما ، ولا أن يقول : اشهدا . فإذا بلغه ، فيقبل لفظا . أو يكتب القبول ، ويحضر القبول شاهدا الإيجاب ، فإن شهده آخران ، فوجهان . أصحهما : المنع ، ومن جوزه ، احتمله كما احتمل الفصل بين الإيجاب والقبول . ثم إذا قبل لفظا أو كتابة ، يشترط كونه على الفور ، وفيه وجه ضعيف سبق .

فرع

كتب إليه : وكلتك في بيع كذا من مالي ، أو إعتاق عبدي ، فإن قلنا : الوكالة لا تفتقر إلى القبول ، فهو ككتب الطلاق ، وإلا فكالبيع ونحوه .

[ ص: 42 ] فرع

كتب : زوجتي طالق ، أو يا فلانة أنت طالق . أو كل زوجة لي فهي طالق ، فإن قرأ ما كتبه ، فقد ذكرنا أنها تطلق . فلو قال : لم أنو الطلاق ، وإنما قصدت قراءة ما كتبته وحكايته ، ففي قبوله ظاهرا وجهان مشبهان بالوجهين فيما لو حل الوثاق ، وقال : أنت طالق . وفائدة الخلاف ، إنما تظهر إذا لم يجعل الكتب صريحا ولا كناية ، أو قلنا : كناية ، وأنكر اقتران النية .

فرع

إذا أوقعنا الطلاق بالمكاتبة ، نظر في صورة المكتوب ، إن كتب : أما بعد ، فأنت طالق ، طلقت في الحال ، سواء وصلها الكتاب أم ضاع .

وإن كتب : إذا قرأت كتابي ، فأنت طالق ، لم يقع بمجرد البلوغ ، بل عند القراءة . فإن كانت تحسن القراءة ، طلقت إذا قرأته ، قال الإمام : والمعتبر أن تطلع على ما فيه . واتفق علماؤنا على أنها إذا طالعته وفهمت ما فيه ، طلقت ، وإن لم تتلفظ بشيء . فلو قرأه غيرها عليها ، فهل يقع الطلاق لأن المقصود اطلاعها ، أم لا لعدم قراءتها مع الإمكان ؟ وجهان . أصحهما : الثاني ، وبه قطع البغوي .

وإن كانت لا تحسن القراءة ، طلقت إذا قرأه عليها شخص على الصحيح . وقيل : لا تطلق أصلا . ولو كان الزوج لا يعلم ، أهي قارئة أم لا ، فيجوز أن ينعقد التعليق على قراءتها بنفسها ، نظرا إلى حقيقته ، ويجوز أن ينعقد على الفهم والاطلاع ، لأنه القدر المشترك بين الناس ، والأول أقرب . أما إذا كتب : [ ص: 43 ] إذا أتاك كتابي ، أو بلغك ، أو وصل إليك كتابي فأنت طالق ، فلا يقع الطلاق قبل أن يأتيها فإن انمحى جميع المكتوب ، فبلغها القرطاس بحيث لا يمكن قراءته ، لم تطلق كما لو ضاع . وقيل : تطلق ، إذ يقال : أتى كتابه وقد انمحى ، والصحيح الأول . وإن بقي أثر ، وأمكنت قراءته ، طلقت ، كما لو وصل بحاله ، وإن وصلها بعض الكتاب دون بعضه ، فخرم الكتاب أربعة أقسام :

أحدها : موضع الطلاق ، فإن كان هو الضائع ، أو انمحى ما فيه ، فثلاثة أوجه . أصحها : لا تطلق ، والثاني : تطلق ، والثالث : إن قال : إذا جاءك كتابي ، وقع . وإن قال : إذا جاءك كتابي هذا أو الكتاب ، فلا .

الثاني : موضع سائر مقاصد الكتاب ، ومنه ما يعتذر به عن الطلاق ويوبخها عليه من الأفعال الملجئة إلى الطلاق ، فإن كان الخلل فيه بالتخرق والانمحاء ، وبقي موضع الطلاق وغيره ، ففيه الأوجه الثلاثة ، والوقوع هنا أولى ، وبه قال أبو إسحاق ، لوصول المقصود ، ويحسن الاعتماد على الوجه الثالث في الصورتين .

الثالث : موضع السوابق واللواحق ، كالتسمية ، وصدر الكتاب ، والحمد والصلاة . فإذا كان الخلل فيه والمقاصد باقية ، ففيه الأوجه ، لكن الأصح هنا ، الوقوع . قال الإمام : وكنت أود أن يفرق في هذه الصور الثلاث بين أن يبقى معظم الكتاب ، أم يختل ؟ فإن للمعظم أثرا في بقاء الاسم وعدمه .

قلت : هذا الذي أشار إليه الإمام ، هو وجه ذكره في " المستظهري " لكنه لم يطرده فيما إذا انمحى موضع الطلاق ، لم يقع عنده . وعند سائر العراقيين قطعا ، ولفظه : وقيل : إن وجد أكثر الكتاب ، طلقت . والله أعلم .

[ ص: 44 ] الرابع : البياض في أول الكتاب وآخره . المذهب : أنه لا عبرة . بزواله . وقيل : يطرد‌ الخلاف .

أما إذا كتب : إذا بلغك كتابي فأنت طالق ، فإن بلغ موضع الطلاق وقع بلا تفصيل ولا خلاف ، وإن بلغ ما سواه وبطل موضع الطلاق ، لم تطلق .

فرع

كتب : إذا بلغك كتابي ، فأنت طالق ، وكتب أيضا : إذا وصل إليك طلاقي فأنت طالق فبلغها ، وقعت طلقتان للصفتين .

ولو كان التعليق بقراءتها ، فقرأت بعضه دون بعض ، فعلى ما ذكرناه في وصول بعضه دون بعض .

فرع

كتب كتابه ونوى ، فككتب الصريح .

ولو أمر الزوج أجنبيا ، فكتب ونوى الزوج ، لم تطلق كما لو قال للأجنبي : قل لزوجتي : أنت بائن ونوى الزوج ، لا تطلق .

فرع

كتب : إذا بلغك نصف كتابي هذا فأنت طالق ، فبلغها كله ، فهل يقع لاشتمال الكل على النصف ، أم لا لأن النصف في مثل هذا يراد به المنفرد ؟ وجهان . قلت : الأصح الوقوع . والله أعلم .

[ ص: 45 ] فرع

الكتب على الكاغد ، والرق ، واللوح ، والنقر في الحجر والخشب ، سواء في الحكم ، ولا عبرة برسم الحروف على الماء والهواء ، لأنها لا تثبت . قال الإمام : ولا يمتنع أن يلحق هذا بالإشارة المفهمة ، ولك أن تمنعه ، لأن هذا إشارة إلى الحروف لا إلى معنى الطلاق وهو الإبعاد .

قلت : ولو خط على الأرض وأفهم ، فكالخط على الورق ، ذكره الإمام والمتولي وغيرهما ، وقد سبق في كتاب البيع . والله أعلم .

فرع

قالت : أتاني كتاب الطلاق ، فأنكر أنه كتبه ، أو أنه نوى ، صدق ، فلو شهد شهود أنه خطه ، لم تطلق بمجرد ذلك ، بل يحتاج مع ذلك إلى إثبات قراءته أو نيته .

فرع

كتب : أنت طالق ثم استمد فكتب : إذا أتاك كتابي ، فإن احتاج إلى الاستمداد ، لم تطلق حتى يبلغها الكتاب ، وإلا طلقت في الحال .

فرع

حرك لسانه بكلمة الطلاق ، ولم يرفع صوته قدرا يسمع نفسه . قال المتولي : حكى الزجاجي ، أن المزني نقل فيه قولين . أحدهما : تطلق ، لأنه أقوى من الكتب مع النية . والثاني : لا لأنه ليس بكلام ، ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن يسمع نفسه .

[ ص: 46 ] قلت : الأظهر : الثاني ، لأنه في حكم النية المجردة ، بخلاف الكتب ، فإن المعتمد في وقوع الطلاق به حصول الإفهام ولم يحصل هنا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية