صفحة جزء
الطرف الخامس : في أحكام اللعان . قد سبق أكثرها في ضمن ما تقدم . واعلم أن الزوج لا يجبر على اللعان بعد القذف ، بل له الامتناع ، وعليه حد القذف كالأجنبي ، وكذا المرأة لا تجبر على اللعان بعد لعانه ، ويتعلق بلعان الزوج خمسة أحكام . أحدها : حصول الفرقة ظاهرا وباطنا ، سواء صدقت أم صدق . وقيل : إن صدقت لم تحصل باطنا ، والصحيح الأول ، وهي فرقة فسخ . الثاني : تأبد التحريم . الثالث : سقوط حد القذف عنه . الرابع : وجوب الزنا عليها . الخامس : انتفاء النسب إذا نفاه باللعان .

قلت : وقد سبقت أحكام أخر في أول الباب . والله أعلم .

ثم هذه الأحكام تتعلق بمجرد لعان الزوج ، ولا يتوقف شيء منها على لعانها ، ولا قضاء القاضي ، ولا يتعلق من هذه الأحكام بإقامة البينة على زناها إلا دفع حد القذف عنه ، وثبوت حد الزنا عليها ، ولا يتعلق بلعان المرأة إلا سقوط حد الزنا عنها . ولو أقام بينة بزناها ، لم تلاعن لدفع الحد ، لأن اللعان حجة ضعيفة ، فلا تقاوم البينة .

فصل

في نفي الولد

فيه مسائل .

إحداها : إنما تحتاج إلى نفي الولد إذا لحقه ، وذلك عند الإمكان ، فإن لم [ ص: 357 ] يمكن كونه منه ، انتفى بلا لعان ، ولعدم الإمكان صور . منها : أن تلد لستة أشهر أو أقل من وقت العقد . ومنها : أن تطول المسافة كالمشرقي مع المغربية ، وقد سبق بيانه مع صور أخرى ، ووراءها صورتان .

إحداهما : أول زمان إمكان إحبال الصبي ، هل هو نصف السنة التاسعة ، أم كمالها ، أم نصف العاشرة ، أم كمالها ؟ فيه أربعة أوجه . أصحها : الثاني . فإذا ولدت زوجته لستة أشهر وساعة تسع الوطء بعد زمن الإمكان ، لحقه الولد ، وإلا فينتفي بلا لعان ، وإذا حكمنا بثبوت النسب بالإمكان ، لم نحكم بالبلوغ بذلك ، لأن النسب ثبت بالاحتمال ، بخلاف البلوغ ، لكن لو قال : أنا بالغ بالاحتلام ، فله اللعان . ولو قال : أنا صبي ، لم يصح . فإن قال بعد ذلك : أنا بالغ ، قبل قوله ، ويمكن من اللعان . وفي وجه : لا يقبل قوله : أنا بالغ بعد قوله : أنا صبي ، للتهمة .

الصورة الثانية : من لم يسلم ذكره وأنثياه ، له أحوال . أحدها : أن يكون ممسوحا فاقد الذكر والأنثيين ، فينتفي عنه الولد بلا لعان ، لأنه لا ينزل ، وفي قول : يلحقه . وحكي هذا عن الإصطخري ، والقاضي حسين ، والصيدلاني . والصحيح المشهور الأول . الثاني : أن يكون باقي الأنثيين دون الذكر ، فيلحقه قطعا . الثالث : عكسه ، فيلحقه أيضا على الأصح . وقيل : لا ، وقيل : إن قال أهل الخبرة : لا يولد له ، لم يلحقه ، وإلا فيلحقه . ومتى بقي قدر الحشفة من الذكر ، فهو كالذكر السليم .

المسألة الثانية : ذكرنا فيما لو أبان زوجته ثم قذفها وهناك حمل وأراد اللعان لنفيه ، أنه يجوز على الأظهر ، وأنه قيل : لا يجوز قطعا . فلو لاعن لنفي الحمل في صلب النكاح ، جاز على المذهب . وقيل : على القولين ، ولو استلحق الحمل ، لحقه ولم يكن له نفيه بعد ذلك .

[ ص: 358 ] الثالثة : ولدت زوجته توأمين ، فنفى أحدهما ، أو نفاهما ، ثم استلحق أحدهما ، لحقه الولدان .

ولو أتت بولد ، فنفاه بعد الولادة باللعان ، ثم ولدت آخر ، فقد يكون بينهما دون ستة أشهر ، وقد يكون ستة فأكثر . فإن كان دونها ، فهما حمل واحد ، فإن نفى الثاني بلعان آخر ، انتفى أيضا ، والأصح أنه لا يحتاج في اللعان الثاني إلى ذكر الولد الأول ، وأن المرأة لا تحتاج إلى إعادة لعانها ، وإن لم تنف الثاني ، بل استلحقه أو سكت عن نفيه مع إمكانه ، لحقاه جميعا . فإن استلحقه ، لزمه لها حد القذف ، كما لو كذب نفسه . وإن سكت فلحقه ، لم يلزمه الحد ، لأنه لم يناقض قوله الأول ، واللحوق حكم الشرع . ولو قذفها ثم لاعن في البينونة ، وأتت بولد آخر قبل ستة أشهر ، فسواء استلحق الثاني صريحا أو سكت عن نفيه فلحقاه ، لزمه الحد .

والفرق أن اللعان بعد البينونة لا يكون إلا لنفي النسب . فإذا لحق النسب ، لم يبق للعان حكم فحد . وفي صلب النكاح له أحكام . فإذا لحق النسب ، لا يرتفع فلم يحد . فأما إذا كان بينهما ستة أشهر فصاعدا ، فالثاني حمل آخر . فإن نفاه باللعان ، انتفى أيضا . وإن استلحقه ، أو سكت عن نفيه ، لحقه ، ولا يمنع من ذلك كونها بانت باللعان ، لاحتمال أنه وطئها بعد وضع الأول فعلقت قبل اللعان ، فتكون حاملا حال البينونة ، فتصير كالمطلقة ثلاثا . إذا ولدت لدون أربع سنين من وقت الطلاق ، ثبت نسبه للمطلق ، لاحتمال كونها حاملا وقت الطلاق ، ولا يلزم من لحوق الثاني لحوق الأول ، لأنهما حملان ، فلا يلحقه الأول ، وهذا الذي ذكرناه من لحوق الثاني إذا لم ينفه ، هو الصواب ، وبه قطع الأصحاب . وقال في المهذب : ينتفي الثاني بلا لعان [ ص: 359 ] لحدوثه بعد الفراش ، وهذا ليس وجها ، بل الظاهر أنه سهو وتوجيهه ممنوع . وجميع ما ذكرناه إذا لاعن عن الولد المنفصل ثم أتت بآخر ، فلو لاعن عن حمل في نكاح أو بعد البينونة إذا جوزناه ، فولدت ولدا ، ثم ولدت آخر ، فإن لم يكن بينهما ستة أشهر ، فالثاني منفي أيضا ، لأنه لاعن عن الحمل ، والحمل اسم لجميع ما في البطن . وإن كان بينهما ستة أشهر فصاعدا ، فالأول منفي باللعان ، وينتفي الثاني بلا لعان ، لأن النكاح ارتفع باللعان ، وانقضت العدة بوضع الأول ، وتحققنا براءة الرحم قطعا .

قال الشيخ أبو حامد : وكذا الحكم لو طلقها أو مات عنها فانقضت عدتها بوضع الحمل ، ثم ولدت لستة أشهر من وقت الوضع ، لا يلحقه الولد الثاني . قال ابن الصباغ : ولا ينظر إلى احتمال حدوثه من وطئه بشبهة ، لأن ذلك لا يكفي للحوق ، لأنه بعد البينونة كسائر الأجانب ، فلا بد من اعترافه بوطء الشبهة وادعائه الولد . وعن القفال ، أنه إذا لم يلاعن لنفي الولد الثاني يلحقه كما قلنا في الولد المنفصل . قال الروياني : هذا غلط لم يذكره غيره .

المسألة الرابعة : كما يجوز نفي الولد في حياته يجوز بعد موته ، سواء خلف الولد ولدا ، بأن كان الزوج غائبا فكبر المولود وتزوج وولد له - أو لم يخلفه . ولو مات أحد التوأمين قبل اللعان ، فله أن يلاعن وينفي الحي والميت جميعا .

ولو نفى ولدا باللعان ، ثم مات الولد فاستلحقه بعد موته ، لحقه وورث ماله وديته إن قتل ، سواء خلف ولدا أم لا احتياطا للنسب .

ولو نفاه بعد الموت ثم استلحقه ، لحقه على الأصح احتياطا للنسب ، وثبت الإرث ، فإن قسمت تركته ، نقصت القسمة .

الخامسة : إذا أتت زوجته بولد ، فأقر بنسبه ، لم يكن له نفيه بعد ذلك ، وإن لم يقر بنسبه وأراد نفيه ، فهل يكون نفيه على الفور ، أم يتمادى ثلاثة أيام ، أم أبدا ، ولا يسقط إلا بالإسقاط ؟ فيه ثلاثة أقوال . أظهرها : الأول وهو الجديد ، وقال الشافعي رحمه الله في بعض كتبه : له نفيه بعد يوم أو يومين [ ص: 360 ] فعن ابن سلمة ، أن التقدير بيومين قول آخر ، ولم يجعله سائر الأصحاب قولا آخر ، بل قالوا : المراد : أو ثلاثا ، فإن قلنا بالفور فأخر بلا عذر ، لحقه وسقط حقه من النفي ، وإن كان معذورا بأن لم يجد القاضي لغيبة ، أو تعذر الوصول إليه ، أو بلغه الخبر في الليل فأخر حتى يصبح ، أو حضرته الصلاة فقدمها ، أو كان جائعا ، أو عاريا فأكل أو لبس أولا ، أو كان محبوسا ، أو مريضا ، أو ممرضا ، لم يبطل حقه ، لكن إن أمكنه الإشهاد فلم يشهد أنه على النفي ، بطل حقه ، وذكر ابن الصباغ وغيره ، أن المريض إذا قدر أن يبعث إلى الحاكم ليرسل إليه نائبا يلاعن عنده فلم يفعل ، بطل حقه ، وإن لم يقدر ، فيشهد حينئذ ، وليطرد هذا في المحبوس ومن يطول عذره .

قال الشيخ أبو حامد وجماعة : المريض والممرض ومن يلازمه غريمه لخوف ضياع ماله ، يبعث إلى الحاكم ويعلمه أنه على النفي ، فإن لم يقدر ، أشهد ، ويمكن أن يجمع بينهما فيقال : يبعث إلى القاضي ، ويطلعه على ما هو عليه ليبعث إليه نائبا ، أو ليكون عالما بالحال إن أخر بعث النائب ، وأما الغائب ، فإن كان في موضعه قاض ، ونفى الولد عنده ، فكذلك ، وإن أراد تأخيره حتى يرجع ، ففي أمالي السرخسي المنع منه . وفي " التهذيب " و " التتمة " جوازه . فعلى هذا ، إن لم يمكنه السير في الحال لخوف الطريق أو غيره فليشهد . وإن أمكنه ، فليسر وليشهد ، فإن أخر السير ، بطل حقه أشهد أم لا ، وإن أخذ في السير ولم يشهد ، بطل حقه أيضا على الأصح . وإن لم يكن هناك قاض ، فالحكم كما لو كان وأراد التأخير إلى بلده وجوزناه .

فرع

إذا قلنا : النفي على الفور ، فله تأخير نفي الحمل إلى الوضع لاحتمال كونه ريحا ، فإن أخر ووضعت وقال : أخرت لأتحقق الحمل ، فله النفي ، وإن قال : علمته ولدا ولكن رجوت أن يموت ، فأكفى اللعان ، بطل حقه على الأصح المنصوص في " المختصر " لتفريطه مع علمه .

[ ص: 361 ] فرع

أخر النفي وقال : لم أعلم الولادة ، فإن كان غائبا ، صدق بيمينه . قال في الشامل : إلا أن يستفيض وينتشر ، وإن كان حاضرا ، صدق في المدة التي يحتمل جهله به ، ولا يقبل في التي يحتمل ، ويختلف ذلك بكونهما في محلة أو محلتين ، أو دار أو دارين ، أو بيت أو بيتين .

ولو قال : أخبرت بالولادة ولم أصدق المخبر ، نظر ، إن أخبره صبي أو فاسق ، صدق بيمينه ، وإن أخبره عدلان ، فلا . وكذا إن أخبره عدل أو امرأة أو رقيق على الأصح ، لأن روايته مقبولة ، ولو قال : علمت الولادة ، ولم أعلم أن لي النفي ، فإن كان فقيها ، لم يقبل قوله ، وإن كان حديث عهد بالإسلام ، أو نشأ في بادية بعيدة ، قبل ، وإن كان من العوام الناشئين في بلاد الإسلام ، فوجهان كنظيره في خيار المعتقة .

فرع

إذا هنئ بالولد ، فقيل له : متعك الله بولدك ، أو جعله له ولدا صالحا ونحوه ، فأجاب بما يتضمن الإقرار والاستلحاق ، كقوله : آمين ، أو نعم ، أو استجاب الله منك ، فليس له النفي بعده ، وإن أجاب بما لا يتضمن الإقرار ، كقوله : جزاك الله خيرا ، أو بارك الله عليك ، أو أسمعك خيرا أو زودك مثله ، لم يبطل حقه من النفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية