صفحة جزء
فصل

من استحقت السكنى من المعتدات ، تسكن في المسكن الذي كانت فيه عند الفراق ، إلا أن يمنع منه مانع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فليس للزوج ولا لأهله إخراجها منه ، ولا يجوز لها الخروج . فلو اتفق الزوجان على أن تنتقل إلى مسكن آخر من غير حاجة ، لم يجز ، وكان على الحاكم المنع منه .

ولو انتقلت في صلب النكاح من مسكن إلى آخر بغير إذن الزوج ، ثم طلقها أو مات ، لزمها أن ( تعود إلى الأول وتعتد فيه ، ولو أذن لها بعد الانتقال أن ) تقيم فيه ، كان كما لو انتقلت بإذنه .

وإذا انتقلت بالإذن ، ثم طلق أو مات ، اعتدت في المنتقل إليه ، لأنه المسكن عند الفراق ، وإن خرجت فطلقها قبل وصولها إلى الثاني المأذون فيه ، فهل تعتد في الثاني أم في الأول ، أم في أقربهما إليها ، أم تتخير فيهما ؟ فيه أوجه ، أصحها : أولها ، وهو نصه في الأم لأنها مأمورة بالمقام فيه ، ممنوعة من الأول ، والاعتبار بالانتقال ببدنها ، لا بالأمتعة والخدم والزوج ، ولو أذن في الانتقال إلى الثاني ، فانتقلت ثم عادت إلى الأول لنقل متاع وغيره فطلقها ، فالمسكن هو الثاني ، فتعتد فيه ، كما لو خرجت لحاجة فطلقها وهي خارجة . ولو أذن لها في الانتقال إلى بلد آخر ، ثم طلقها ، أو مات ، فحكمه كما ذكرنا فيما لو أذن في الانتقال من مسكن إلى مسكن ، فإن وجد سبب الفراق بعد الانتقال [ ص: 411 ] إلى البلد الثاني ، اعتدت فيه ، وإن وجد قبل مفارقة عمران الأول ، لم تخرج ، بل تعود إلى المسكن وتعتد فيه ، وإن كان في الطريق ، فعلى الأوجه .

وإن أذن في السفر لغير النقلة ، نظر ، إن تعلق بغرض مهم ، كتجارة وحج وعمرة واستحلال عن مظلمة ونحوها ، ثم حدث سبب الفرقة ، نظر ، إن كان حدث قبل خروجها من المسكن ، لم تخرج بلا خلاف . وإن خرجت منه على قصد السفر ولم تفارق عمران البلد ، فالأصح عند الجمهور أنه يلزمها العود إلى المسكن ، لأنها لم تشرع في السفر .

والثاني : تتخير بين العود والمضي في السفر ، لأن عليها ضررا في إبطال سفرها ، وفوات غرضها . والثالث : إن كان سفر حج ، تخيرت ، وإلا فيلزم العود ، وإن حدث سبب الفرقة في الطريق ، تخيرت بين العود والمضي . وقيل : إن حدث بعد مسيرة يوم وليلة تخيرت ، وإن حدث قبله ، تعين العود ، وليس بشيء ، وإذا خيرناها ، فاختارت العود إلى المسكن والاعتداد ، فذاك ، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه الأفضل ، وإن اختارت المضي إلى المقصد ، فلها أن تقيم فيه إلى انقضاء حاجتها ، فلو انقضت قبل تمام مدة إقامة المسافرين ، فالمذكور في " التهذيب " و " الوسيط " وغيرهما ، أن لها أن تقيم تمام مدة المسافرين ، وحكى الروياني هذا عن بعضهم ، ثم غلط قائله وقال : نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غير .

قلت : الأصح أنه لا يجوز أن تقيم بعد قضاء الحاجة ، وبه قطع صاحب " المهذب " والجرجاني ، والرافعي في " المحرر " وآخرون . والله أعلم .

وإن كان أذن لها في سفر نزهة فبلغت المقصد ، ثم حدث ما يوجب العدة ، فإن لم يقدر الزوج مدة ، لم تقم أكثر من مدة المسافرين ، وإن قدر ، فهل الحكم كذلك ، أم لها استيفاء المدة المقدرة ؟ قولان . أظهرهما : الثاني ، ويجريان فيما لو قدر في الحاجة مدة تزيد على قدر الحاجة ، لأن الزائد كالنزهة . ففي قول : يجب الانصراف إذا انقضت الحاجة . وفي قول : تقيم المأذون فيه ، ويجريان فيما [ ص: 412 ] لو أذن في الانتقال إلى مسكن آخر في البلد مدة قدرها ثم طلقها ، أو مات ، كذا حكاه الروياني عن نصه في " الأم " وفي الوسيط أن الطلاق يبطل تلك المدة ، ويجريان فيما لو أذن لها في الاعتكاف مدة ولزمتها العدة قبل مضي المدة ، هل لها إدامة الاعتكاف إلى تمام المدة ، أم يلزمها الخروج لتعتد في المسكن ؟ فإن لم يلزمها الخروج فخرجت ، بطل اعتكافها ولم يكن لها البناء عليه إذا كان منذورا ، وإن ألزمناها ، فهل يبطل بالخروج ، أم يجوز البناء ؟ وجهان . أصحهما : الثاني .

وإن حدث سبب العدة في سفر النزهة قبل بلوغها المقصد ، فحيث قلنا في سفر الحاجة : يجب الانصراف ، فهنا أولى . وحيث قلنا : لا يجب ، فهنا وجهان . وقطع صاحب " الشامل " ، بأنه كسفر الحاجة .

وأما سفر الزيارة ، فكسفر النزهة على ظاهر النص ، وقيل : كسفر الحاجة ، ثم إذا انتهت مدة جواز الإقامة في هذه الأحوال ، فعليها الانصراف في الحال إن لم تكن انقضت مدة العدة بتمامها لتعتد بقية العدة في المسكن . فإن كان الطريق مخوفا ، أو لم تجد رفقة ، عذرت في التأخير . فلو علمت أن البقية تنقضي في الطريق ، ففي لزوم العود وجهان . أصحهما : يلزمها ، وهو نصه في " الأم " ليكون أقرب إلى موضع العدة ، ولأن تلك الإقامة غير مأذون فيها ، والعود مأذون فيه ، هذا كله إذا أذن لها في السفر .

فأما إذا خرجت مع الزوج ثم طلقها ، أو مات ، فعليها الانصراف ، ولا تقيم أكثر من مدة المسافرين ، إلا إذا كان الطريق مخوفا ، أو لم تجد رفقة . وهذا إذا كان سفره لغرضه واستصحبها ليستمتع بها . فأما إذا كان السفر لغرضها وخرج بها ، فليكن الحكم كما لو أذن لها فخرجت . وفي لفظ " المختصر " ما يشعر بهذا .

فرع

أذن لها في الإحرام بحج وعمرة ، ثم طلقها قبل الإحرام ، فلا تحرم ، ولا تنشئ السفر بعد لزوم العدة ، فلو أحرمت ، فهو كما لو أحرمت بعد الطلاق [ ص: 413 ] بغير إذن ، وحكمه أن لا يجوز لها الخروج في الحال وإن كان الحج فرضا ، ( بل ) يلزمها أن تقيم وتعتد ، لأن لزوم العدة سبق الإحرام ، فإذا انقضت العدة ، أتمت عمرتها إن كانت معتمرة ، وكذا الحج إن بقي وقته ، فإن فات ، تحللت بأفعال العمرة ، ولزمها القضاء ودم الفوات .

ولو أحرمت أولا بإذن الزوج ، أو بغير إذنه ثم طلقها ، فإن كانت تخشى فوات الحج لضيق الوقت ، خرجت إلى الحج معتدة ، لأن الإحرام سبق العدة ، مع أنه في خروجها يحصل الحج والعدة ، وإن كانت لا تخشى فوات الحج أو أقامت للعدة ، أو كان الإحرام بعمرة ، فوجهان . أحدهما وهو مذكور في " المهذب " : يلزمها أن تقيم للعدة ، ثم تخرج جمعا بين الحقين . وأصحهما وبه قطع الشيخ أبو حامد والأكثرون : تتخير بين أن تقيم وبين أن تخرج في الحال ، لأن مصابرة الإحرام مشقة .

فرع

منزل البدوية وبيتها من صوف ووبر وشعر ، كمنزل الحضرية من طين وحجر ، فإذا لزمتها العدة فيه ، لزمها ملازمته ، فإن كان أهلها نازلين على ما لا ينتقلون عنه ، ولا يظعنون إلا لحاجة ، فهي كالحضرية من كل وجه . وإن كانوا من قوم ينتقلون شتاء أو صيفا ، فإن ارتحلوا جميعا ارتحلت معهم للضرورة ، وإن ارتحل بعضهم ، نظر ، إن كان أهلها ممن لم يرتحل وفي المقيمين قوة وعدد ، فليس لها الارتحال . وإن ارتحل أهلها وفي الباقين قوة وعدد ، فوجهان ، أحدهما : ليس لها الارتحال ، بل تعتد هناك لتيسره ، وأصحهما : تتخير بين أن تقيم وبين أن ترتحل ، لأن مفارقة الأهل عسرة موحشة .

ولو هرب أهلها خوفا من عدو ولم ينتقلوا ، ولم تخف هي ، لم يجز لها الارتحال ، لأن المرتحلين يعودون إذا أمنوا ، ولو ارتحلت حيث يجوز الارتحال ، ثم أرادت الإقامة في قرية في الطريق والاعتداد فيها ، جاز ، لأنه أليق بحال المعتدة من السير .

[ ص: 414 ] فرع

طلقها أو ماتت وهي في سفينة ، فإن ركبتها مسافرة ، فحكم السفر ما سبق ، وإن كان الزوج ملاحا ولا منزل له سوى السفينة ، فإن كانت سفينة كبيرة فيها بيوت متميزة المرافق ، اعتدت في بيت منها معتزلة عن الزوج ، وسكن الزوج بيتا آخر ، وإن كانت صغيرة ، نظر ، إن كان معها محرم لها يمكن أن يعالج السفينة ، خرج الزوج ، واعتدت هي فيها ، وإلا فتخرج هي وتعتد في أقرب المواضع إلى الشط ، وإذا تعذر خروجه وخروجها ، فعليها أن تستتر وتبعد منه بقدر الإمكان ، هكذا ذكره صاحب " الشامل " و " التهذيب " وغيرهما ، وفيه إشعار بأنه لا يجوز لها الخروج من السفينة إذا أمكن الاعتداد فيها ، وقد صرح به آخرون ، ونقل الروياني في كتبه ، أنها تتخير بين أن تعتد في السفينة ، وبين أن تخرج فتعتد خارجها . فإن اختارت السفينة ، نظرنا حينئذ ، هل هي صغيرة أم كبيرة ؟ وراعينا التفصيل المذكور ، وذكر فيما إذا اختارت الخروج ، وجهين أصحهما وبه قال الماسرجسي : تعتد في أقرب القرى إلى الشط . والثاني وبه قال أبو إسحاق : تعتد حيث شاءت .

فرع

إذا خرجت الزوجة إلى غير الدار المألوفة ، أو غير البلد المألوف ، ثم طلقها واختلفا ، فقالت : أذنت لي في الانتقال فأعتد في المنزل الثاني ، وقال : إنما أذنت لك في النزهة أو في غرض كذا فعودي إلى المنزل الأول فاعتدي فيه ، في من يصدق منهما اختلاف نص وطرق منتشرة انتشارا كثيرا ، وحاصلها : أن المذهب تصديق الزوج وإذا اختلف الزوجان ، وتصديقها إذا اختلفت هي ووارث الزوج . وقيل : قولان . أحدهما : تصديق الزوج والوارث . والثاني : تصديقها [ ص: 415 ] لأن الظاهر معها . وقيل : إن اتفقا على إذن في الخروج مطلقا ، وقال الزوج : أردت النزهة ، أو قال ذلك وارثه ، وقالت : بل أردت النقلة ، فالقول قولها ، وإن قال : قلت : اخرجي للنزهة ، أو قال ذلك وارثه . وقالت : بل قلت : اخرجي للنقلة ، فالقول قول الزوج ووارثه .

وقيل : إن تحول الزوج معها إلى المنزل الثاني فهي المصدقة عليه وعلى وارثه . وإن انفردت بالتحول ، صدقا عليها . أما إذا اتفقا على جريان لفظ الانتقال ، أو الإقامة ، بأن قال : انتقلي إلى موضع كذا ، أو اخرجي إليه وأقيمي به ، قال الزوج : ضممت إليه : للنزهة ، أو شهرا ، أو نحوهما ، وأنكرت الزوجة هذه الضميمة ، أو قال ذلك وارثه ، فالقول قولها ، لأن الأصل عدم هذه الضميمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية