صفحة جزء
فصل

يحرم على الزوج مساكنة المعتدة في الدار التي تعتد فيها ومداخلتها ، لأنه يؤدي إلى الخلوة بها ، وخلوته بها كخلوته بالأجنبية ، ويستثنى من ذلك موضعان .

أحدهما : أن يكون في الدار محرم لها من الرجال ، أو محرم له من النساء ، أو من في معنى المحرم ، كزوجة أخرى وجارية ، ولا بد في المحرم ومن في معناه من التمييز ، فلا عبرة بالمجنون والصغير الذي لا يميز ، واشترط الشافعي رضي الله عنه البلوغ ، قال القاضي أبو الطيب : لأن من لم يبلغ ، لا تكليف عليه ، فلا ينكر الفاحشة .

وقال الشيخ أبو حامد : يكفي عندي حضور المراهق ، والنسوة الثقات كالمحرم على الصحيح ، ويكفي حضور المرأة الواحدة الثقة على الأصح ، وبه قطع صاحب " الشامل " وغيره ، والحكاية عن الأصحاب ، أنه لا يجوز أن يخلو رجلان بامرأة واحدة ، ويجوز أن يخلو الرجل بامرأتين ثقتين ، لأن استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجل من الرجل ، ثم لا يخفى أن مساكنة الزوج والمحرم ومن في معناه ، إنما يفرض فيما إذا كان في الدار زيادة على سكنى مثلها ، فإن لم يكن كذلك ، فعلى الزوج تخليتها للمعتدة ، والانتقال عنها ، ثم المساكنة وإن جازت بسبب المحرم ، فالكراهة باقية ، لأنه لا يؤمن النظر .

الموضع الثاني : إذا كان في الدار حجرة ، فأراد أن يسكن أحدهما ويسكنها الأخرى ، فإن كانت مرافق الحجرة كالمطبخ والمستراح ، والبئر ، والمصعد إلى السطح في الدار ، لم يجز إلا بشرط المحرم ، وإن كانت المرافق في [ ص: 419 ] الحجرة ، جاز ، كالحجرتين والدارين المتجاورتين ، وحكم السفلي والعلوي حكم الدار والحجرة ، ثم ذكر البغوي والمتولي وغيرهما ، أنه يشترط أن لا يكون ممر إحداهما على الأخرى ، ويغلق الباب بينهما أو يسد ، وهذا حسن . ويؤيده ما ذكره الأئمة أنه لو كانت الدار واسعة ولم يكن فيها إلا بيت والباقي صفف ، لم يجز أن يساكنها وإن كان معها محرم ، لأنها لا تتميز من المسكن بموضع ، فإن قال : أنا أبني بيني وبينها حائلا ، وكان الذي يبقى لها سكنى مثلها ، فله ذلك ، ثم إن جعل باب ما يسكنه خارجا عن مسكنها ، فلا حاجة إلى محرم ، وإن جعله في مسكنها ، لم يجز أن يسكنه إلا بشرط المحرم أو من في معناه ، وقيل : لا يشترط اختلاف الممر ، بل يكفي أن يغلق على الحجرة باب . ولو كانا في بيتين من دار كبيرة ، وانفرد كل بباب يغلق ، جاز على الأصح كبيتين من خان .

فصل

إذا كانت معتدة بالأقراء أو الحمل ، لم يصح بيع المسكن الذي يستحق فيه السكنى ، سواء كان لها عادة مستقيمة في الأقراء والحمل ، أم لا .

وإن كانت تعتد بالأشهر ، ففي صحة بيعه قولان ، كالدار المستأجرة ، وقيل : لا يصح قطعا ، ويجري الطريقان سواء كانت تتوقع مجيء الحيض في أثناء الشهر ، بأن كانت بنت تسع سنين فصاعدا ولم تحض ، أو لا تتوقعه كالآيسة ، وبنت سبع سنين .

وقيل : لا يصح البيع في الصورة الأولى قطعا ، فإن جوزنا البيع ، فحاضت وانتقلت إلى الأقراء ، خرج ذلك على اختلاط الثمار المبيعة بالحادثة بعد البيع فيما لا يغلب فيه التلاحق ، وفيه قولان سبقا . أظهرهما : لا ينفسخ البيع ، بل يثبت الخيار للمشتري .

[ ص: 420 ] فرع

لو كان المنزل مستعارا ، لازمته ما لم يرجع المعير ، وليس للزوج نقلها ، وقيل : له نقلها في البلد الذي لا يعتاد فيه إعادة المنزل ، كيلا يلحقه منة ، والصحيح الأول . وإذا رجع ، قال المتولي وغيره : على الزوج أن يطلبه منه بأجرة ، فإن امتنع أو طلب أكثر من أجرة المثل ، نقلها ، وإن نقلها ثم بذل المنزل الأول مالكه ، قال الروياني : إن بذله بإعارة ، لم يلزم ردها إليه ، وإن بذل بأجرة ، فإن كان المنقول إليه مستعارا ، وجب ردها إلى الأول ، وإن كان بأجرة ، فوجهان .

فرع

كان المنزل الذي تعتد فيه مستأجرا ، فانقضت مدة الإجارة ولم يجدد المالك إجارة ، فلا بد من نقلها ، وإذا وجب النقل في هذه الصور ، فالقول في تحري أقرب المواضع على ما سبق .

فرع

إذا كانت تسكن منزل نفسها ، ففي " المهذب " و " التهذيب " أنه يلزمها أن تعتد فيه ، ولها طلب الأجرة ، والأصح ما ذكره صاحب " الشامل " وغيره أنها إن رضيت بالإقامة فيه بإعارة أو إجارة ، جاز وهو الأولى ، وإن طلبت نقلها ، فلها ذلك ، إذ ليس عليها بذل منزلها بإعارة ولا إجارة .

فرع

لو طلقها وهي في منزل مملوك للزوج ، ثم أفلس وحجر عليه ، بقي لها حق السكنى ، وتقدم به على الغرماء ، وكذا لو مات وعليه ديون ، تقدم به على حق الغرماء والورثة ، وهل للحاكم بيع رقبة المسكن ؟ فيه الطريقان السابقان ، [ ص: 421 ] ولو أفلس وحجر عليه ، ثم طلقها ، ضاربت الغرماء بالسكنى ، وليس ذلك كدين حادث ، لأن حقها مستند إلى سبب متقدم على الحجر وهو النكاح والوطء فيه ، ولو طلقها وليست في منزل له ، ضاربتهم بالأجرة ، سواء تقدم الطلاق أو تأخر ، لأن حقها هنا مرسل غير متعلق بعين .

ومتى ضاربت ، فإن كانت عدتها بالأشهر ، ضاربت بأجرة المثل للأشهر ، وإن كانت بالأقراء أو الحمل ، نظر ، إن لم تكن لها عادة فيهما ، فوجهان . أصحهما : تضارب بأقل مدة يمكن انقضاء الأقراء فيها ، والحامل بأجرة ما بقي من أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من حين العلوق ، لأن استحقاق الزيادة مشكوك فيه . والثاني : تؤخذ بالعادة الغالبة ، فتضارب ذات الأقراء بأجرة ثلاثة أشهر ، والحامل بما بقي من تسعة أشهر ، وهذا اختيار صاحب " الحاوي " .

وإن كانت لها عادة مستقيمة فيهما ، ضاربت بأجرة مدة العادة على الصحيح ، وقيل بالأقل ، وإن كان لها عادات مختلفة ، وراعينا العادة ، فالمعتبر أقل عاداتها .

وإذا ضاربت بأجرة مدة ، وانقضت العدة على وفق تلك المضاربة ، فهل ترجع على المفلس بالباقي من الأجرة عند يساره ؟ حكى الشيخ أبو علي فيه طريقين ، أحدهما : على وجهين بناء على أن الزوجة إذا لم تطالب بالسكنى في النكاح أو في العدة مدة ، هل تصير سكنى المدة الماضية دينا لها عليه ، وتطالبه بها ؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى . وأصحهما : القطع بالرجوع ، كما في الباقي من ديون الغرماء ، بخلاف مسألة الوجهين ، لأنها هنا طلبت الجميع ، ولكن زحمة الغرماء منعتها ، ولو انقضت العدة قبل تمام المدة التي ضاربت لها ، ردت الفضل على الغرماء ، وفي رجوعها على المفلس بما تقتضيه المحاصة للمدة المنقضية الطريقان .

[ ص: 422 ] ولو امتدت العدة وزادت على مدة المضاربة ، ففي رجوعها بحصة المدة الزائدة على الغرماء ثلاثة أوجه . أصحها : الرجوع ، لأنا تبينا استحقاقها ، كما لو ظهر غريم ، ولها أن ترجع على المفلس إذا أيسر ، والثاني : لا ترجع على الغرماء ، لئلا تغير ما حكمنا به ، وينسب هذا إلى النص ، وصححه الروياني في " التجربة " ، والثالث : ترجع الحامل لأنه حسي دون ذات الأقراء ، فإنها متهمة بتأخيرها ، وإذا قلنا : لا ترجع على الغرماء ، رجعت على الزوج على الأصح إذا أيسر ، قال الإمام : والخلاف في رجوعها على الغرماء ، إذا لم يصدقوها ، فإن صدقوها رجعت عليهم بلا خلاف ، قال : وفي غير صورة الإفلاس إذا مضى زمن العادة ، فادعت مزيدا ، وتغيرا في العادة ، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب ، أنها تصدق بلا خلاف ، وعلى الزوج الإسكان ، قال : وفيه احتمال ، لأنا إذا صدقناها ربما تمادت في دعواها إلى سن اليأس .

فرع

إذا ضاربت في صورة الإفلاس بالأجرة ، استؤجر بحصتها المنزل الذي وجبت فيه العدة ، فإن تعذر ، فأقرب الممكن كما سبق . قال ابن الصباغ : فإذا جاوزت مدة ما أخذت أجرته ، سكنت حيث شاءت .

فرع

لو كانت المطلقة رجعية ، أو حاملا ، استحقت مع السكنى النفقة ، وتضارب الغرماء عند إفلاس الزوج بالنفقة والسكنى ، والقول في كيفية المضاربة والرجوع كما سبق ، ولكن إذا قلنا : إن نفقة الحامل لا تعجل ، لم يدفع إليها حصة النفقة في الحال .

[ ص: 423 ] فصل

إذا طلقها وهو غائب ، وهي في دار له بملك أو إجارة ، اعتدت فيها ، وإن لم يكن له مسكن وله مال ، اكترى الحاكم من ماله مسكنا تعتد فيه إن لم يجد متطوعا به ، فإن لم يكن له مال ، اقترض عليه ، واكترى ، فإذا رجع ، قضاه ، فإن أذن لها أن تعترض عليه ، أو تكتري المسكن من مالها ، ففعلت ، جاز ، وترجع ، ولو اكترت من مالها ، أو اقترضت بقصد الرجوع ، ولم تستأذن الحاكم ، نظر ، إن قدرت على الاستئذان أو لم تقدر ولم تشهد ، لم ترجع ، وإن لم تقدر أو أشهدت ، رجعت على الأصح ، وكل هذا على ما سبق في مسألة هروب الجمال ونظائرها .

فرع

إذا مضت مدة العدة ، أو بعضها ، ولم تطلب حق السكنى ، سقط ، ولم يصر دينا في الذمة ، نص عليه ، ونص أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان ، بل تصير دينا في الذمة ، فقيل : قولان فيهما لترددهما بين الديون ونفقة القريب ، والمذهب تقرير النصين ، والفرق بأن النفقة بالتمكين ، وقد وجد ، والسكنى لصيانة مائه على موجب نظره ، ولم يتحقق ، وحكم السكنى في صلب النكاح كما ذكرنا في العدة .

فصل

إذا مات الزوج في خلال العدة ، لم يسقط ما استحقته المبتوتة من السكنى ، وإذا استحقت السكنى ، أو مات عنها وهي زوجة وقلنا : تستحق السكنى ، فإن كانت في مسكن مملوك للزوج ، لم يقسمه الورثة حتى تنقضي العدة ، ولو أرادوا التمييز بخطوط ترسم من غير نقض وبناء ، جاز إن قلنا : القسمة إفراز ، وإن قلنا : بيع ، فحكم بيع مسكن العدة كما سبق ، وقيل : إن قلنا : إفراز ، [ ص: 424 ] فلهم القسمة كيف شاءوا ، والصحيح الأول . وإن كان في مسكن مستأجرا أو مستعارا ، واحتيج إلى نقلها ، فعلى الوارث أن يستأجر لها من التركة ، فإن لم يكن تركة ، فليس على الوارث إسكانها . فلو تبرع به ، لزمها الإجابة ، وإذا لم يتبرع ، ففي " التهذيب " أنه يستحب للسلطان أن يسكنها من بيت المال ، لا سيما إن كانت تتهم بريبة ، ولفظ الروياني في " البحر " أن السلطان لا يلزمه أن يكتري لها ، إلا عند الريبة فيلزمه .

وإذا قلنا : لا تجب السكنى في عدة الوفاة ، فالمذهب أن للورثة إسكانها حيث أرادوا ، وبهذا قطع الأصحاب . وحكى الغزالي وجهين ، أصحهما هذا ، والثاني : أنه إنما تلزمها الإجابة ، وإذا توقع شغل الرحم بالماء ، فإن لم يتبرع الوارث بإسكانها ، فللسلطان أن يحصنها بالإسكان . وفي " الوسيط " و " البسيط " ، أنه ليس للسلطان تعيين المسكن ، بخلاف الوارث ، والأول هو المذهب والمنصوص ، وبه قطع الجماهير ، وإذا لم يسكنها الوارث والسلطان ، سكنت حيث شاءت ، فلو أسكنها أجنبي متبرع ، قال الروياني : إن لم يكن المتبرع ذا ريبة ، فهو كالوارث ، فعليها أن تسكن حيث يسكنها .

قلت : وفي هذا نظر . والله أعلم .

فرع

للواطئ بشبهة أو في نكاح فاسد إسكان المعتدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية