صفحة جزء
الفصل الثاني : في وجوب الإمامة وبيان طرقها ، لا بد للأمة من إمام يقيم الدين ، وينصر السنة ، وينتصف للمظلومين ، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها .

[ ص: 43 ] قلت : تولي الإمامة فرض كفاية ، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا ، تعين عليه ولزمه طلبها إن لم يبتدئوه . والله أعلم .

وتنعقد الإمامة بثلاثة طرق ، أحدها : البيعة ، كما بايعت الصحابة أبا بكر رضي الله عنهم ، وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستة أوجه ، أحدها : أربعون ، والثاني : أربعة ، والثالث : ثلاثة ، والرابع : اثنان ، والخامس : واحد ، فعلى هذا يشترط كون الواحد مجتهدا .

وعلى الأوجه الأربعة يشترط أن يكون في العدد المعتبر مجتهد لينظر في الشروط المعتبرة ، ولا يشترط أن يكون الجميع مجتهدين ، والسادس وهو الأصح : أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم ، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع ، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة ، لزمهم الموافقة والمتابعة ، وعلى هذا لا يتعين للاعتبار عدد ، بل لا يعتبر العدد ، حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع ، كفت بيعته ; لانعقاد الإمامة ، ويشترط أن يكون الذين يبايعون بصفة الشهود ، وذكر في " البيان " في اشتراط حضور شاهدين البيعة ، وجهين .

قلت : الأصح : لا يشترط إن كان العاقدون جمعا ، وإن كان واحدا ، اشترط الإشهاد ، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد : قال أصحابنا : يشترط حضور الشهود لئلا يدعى عقد سابق ، ولأن الإمامة ليست دون النكاح ، لكن اختيار الإمام انعقادها بواحد ، وذكر الماوردي أنه يشترط في العاقدين : العدالة والعلم والرأي ، وهو كما قال . والله أعلم .

ويشترط ; لانعقاد الإمامة أن يجيب المبايع ، فإن امتنع ، لم تنعقد إمامته ، ولم يجبر عليها .

[ ص: 44 ] قلت : إلا أن لا يكون من يصلح إلا واحد ، فيجبر بلا خوف . والله أعلم .

الطريق الثاني : استخلاف الإمام من قبل ، وعهده إليه ، كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما ، وانعقد الإجماع على جوازه ، والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده ، فإن أوصى له بالإمامة ، فوجهان حكاهما البغوي ، ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدا بعده ، كان كالاستخلاف ، إلا أن المستخلف غير متعين ، فيتشاورون ، ويتفقون على أحدهم ، كما جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه ، وذكر الماوردي أنه يشترط في المعهود إليه شروط الإمامة من وقت العهد إليه حتى لو كان صغيرا أو فاسقا عند العقد ، بالغا عدلا عند موت العاهد ، لم يكن إماما ، إلا أن يبايعه أهل الحل والعقد ، وقد يتوقف في هذا .

قلت : لا توقف فيه ، فالصواب الجزم بما ذكره الماوردي ، والفرق بينه وبين الوصي ظاهر . والله أعلم .

وذكر الماوردي أنه إذا عهد إلى غائب مجهول الحياة ، لم يصح ، وإن كان معلوم الحياة ، صح ، فإن مات المستخلف وهو بعد غائب ، استقدمه أهل الاختيار ، فإن بعدت غيبته وتضرر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم ، اختار أهل الحل والعقد نائبا له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة ، فإذا قدم انعزل النائب ، وأنه إذا عزل الخليفة نفسه ، كان كما لو مات ، فتنتقل الخلافة إلى ولي العهد ، ويجوز أن يفرق بين أن يقول : الخلافة بعد موتي لفلان ، أو بعد خلافتي .

[ ص: 45 ] قلت : توقف إمام الحرمين في كتابه " الإرشاد " في انعزال الإمام بعزله نفسه . والله أعلم .

وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد ، وفيه مذهبان آخران ، أحدهما : المنع ، كالتزكية والحكم لهما ، والثاني : يجوز للوالد دون الولد ، لشدة الميل إليه ، وأن ولي العهد لو أراد أن ينقل ما إليه من العهد إلى غيره ، لم يجز ، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين ، فقال الخليفة : بعد موتي فلان ، وبعد موته فلان ، وبعد موته فلان ، جاز ، وانتقلت الخلافة إليهم على ما رتب ، كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة ، وأنه لو مات الأول في حياة الخليفة ، فالخلافة للثاني ، ولو مات الأول والثاني في حياته ، فهي للثالث ، وأنه لو مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء ، فانتصب الأول للخلافة ، ثم إن أراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين ، فالظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه ; لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد ، فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ، ويقدم عهد الأول على اختيارهم وأنه ليس لأهل الشورى أن يعينوا واحدا منهم في حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك ، فإن خافوا انتشار الأمر بعده استأذنوه ، فإن أذن ، فعلوه ، وأنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختار خليفة بعده ، كما يجوز أن يعهد إلى غيره ، ثم لا يصح إلا اختيار من نص على أنه يختار ، كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه ، وأنه إذا عهد إلى غيره بالخلافة ، فالعهد موقوف على قبول المعهود إليه ، واختلف في وقت قبوله ، فقيل : بعد موت الخليفة ، والأصح أن وقته ما بين عهد الخليفة وموته ، قال صاحب " التتمة " : وإذا امتنع المعهود إليه من القبول بويع غيره ، وكأنه لا عهد ، وكذا إذا جعل الأمر شورى ، فترك القوم الاختيار لا يجبرون عليه ، وكأنه لم يجعل الأمر إليهم .

[ ص: 46 ] قلت : ومما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية من هذا ، أنه لو جمع شروط الإمامة اثنان ، استحب لأهل العقد أن يعقدوها لأسنهما ، فإن عقدوها للآخر ، جاز ، فإن كان أحدهما أعلم ، والآخر أشجع ، روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت ، فإن دعت الحاجة إلى زيادة الشجاعة لظهور البغاة وأهل الفساد ، كان الأشجع أحق ، وإن دعت إلى زيادة العلم لسكون الفتن ، وظهور البدع ، كان الأعلم أحق ، وأنه لو تنازعها اثنان ، فقد قال بعض الفقهاء : يقدح ذلك فيهما فيعدل إلى غيرهما ، والذي عليه الجمهور : أنه لا يقدح ; لأن طلب الخلافة ليس مكروها ، ثم هل يقرع بينهما عند التساوي ، أم يقدم أهل الاختيار من شاءوا بلا قرعة ؟ فيه خلاف ، وأن الخليفة إذا أراد العهد ، لزمه أن يجتهد في الأصلح ، فإذا ظهر له واحد ، جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره ، ولا مشاورة أحد ، وأن المعهود إليه إذا استعفى ، لم يبطل عهده حتى يعفى ، فإن وجد غيره ، جاز استعفاؤه ، وخرج من العهد باجتماعهما ، وإن لم يوجد غيره ، لم يجز إعفاؤه ولا استعفاؤه ، ويبقى العقد لازما . والله أعلم .

فصل

وأما الطريق الثالث ، فهو القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام ، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة ، وقهر الناس بشوكته وجنوده ، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين ، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا ، أو جاهلا ، فوجهان ، أصحهما : انعقادها لما ذكرناه ، وإن كان عاصيا بفعله .

فرع

لو تفرد شخص بشروط الإمامة في وقته ، لم يصر إماما بمجرد ذلك ، بل لا بد من أحد الطرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية