صفحة جزء
[ ص: 95 ] فصل

يشترط لوجوب الحد كون الفاعل مختارا مكلفا ، فلو أكره رجل على الزنا ، فزنى لم يجب الحد على الأصح ، ولا حد على صبي ولا مجنون ، ومن جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالإسلام ، أو لأنه نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين ، لا حد عليه ، ومن نشأ بين المسلمين وقال : لم أعلم التحريم ، لم يقبل قوله ، ولو علم التحريم ، ولم يعلم تعلق الحد به ، فقد جعله الإمام على التردد الذي ذكره فيمن وطئ من يظنها مشتركة فكانت غيرها .

قلت : الصحيح الجزم بوجوب الحد ، وهو المعروف في المذهب ، والجاري على القواعد . والله أعلم .

فصل

يشترط للحد ثبوت الزنا عند القاضي ببينة أو إقراره ، ويستحب لمن ارتكب كبيرة توجب الحد لله تعالى أن يستر على نفسه ، وهل يستحب للشهود ترك الشهادة في حدود الله تعالى ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، لئلا تتعطل .

قلت : الأصح أن الشاهد إن رأى المصلحة في الشهادة ، شهد ، وإن رآها في الستر ، ستر . والله أعلم .

وإذا ثبت الحد ، لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه ، وإذا أقر على نفسه بزنا ، ثم رجع عنه سقط الحد ، وهل يستحب له الرجوع ؟ وجهان ، أحدهما : نعم كالستر ابتداء ، والثاني : لا ; لأن الهتك قد حصل .

[ ص: 96 ] قلت : مقتضى الحديث الصحيح في قصة ماعز رضي الله عنه أنه يستحب فهو الراجح . والله أعلم .

ولو قال : زنيت بفلانة ، فهو مقر بالزنا قاذف لها ، فإن أنكرت ، أو قالت : كان تزوجني ، لزمه حد القذف ، فإن رجع ، سقط حد الزنا وحده ، ولو قال : زنيت بها مكرهة ، لم يجب حد القذف ، ويجب مع حد الزنا المهر ، ولا يسقط المهر بالرجوع ، ولو رجع بعد ما أقيم بعض الحد ، ترك الباقي ، ولو قتله شخص بعد الرجوع ، ففي وجوب القصاص وجهان نقلهما ابن كج ، وقال : الأصح لا يجب ، وبه قال أبو إسحاق لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع ، ولو رجع بعد ما جلد بعض الحد ، فأتم الإمام الحد ، فمات منه ، والإمام يعتقد سقوط الحد بالرجوع ، فنقل ابن القطان في وجوب القصاص قولين ، فإن قلنا : لا يجب نصف الدية ، أم يوزع على السياط ؟ قولان ، وقال ابن كج : عندي لا قصاص ، والرجوع كقوله : كذبت ، أو رجعت عما أقررت به ، أو ما زنيت ، أو كنت فاخذت ، أو لمست فظننته زنا ، ولو شهدوا على إقراره بالزنا ، فقال : ما أقررت ، أو قال بعد حكم الحاكم بإقراره : ما أقررت ، فالصحيح أنه لا يلتفت إلى قوله ; لأنه تكذيب للشهود والقاضي ، وعن أبي إسحاق والقاضي أبي الطيب : يقبل ; لأنه غير معترف في الحال ، وإن قال : لا تقيموا علي الحد ، أو هرب ، أو امتنع من الاستسلام ، فهل هو رجوع ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، لكن يخلي في الحال ولا يتبع ، فإن رجع فذاك ، وإلا أقيم عليه حد ، ولو أتبع الهارب ، فرجم ، فلا ضمان ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليهم في قضية ماعز رضي الله عنه شيئا ، والرجوع عن الإقرار بشرب الخمر ، كالرجوع عن الإقرار بالزنا ، وفي الرجوع عن [ ص: 97 ] الإقرار بالسرقة وقطع الطريق خلاف يأتي في السرقة إن شاء الله تعالى .

فرع

لو تاب من ثبت زناه ، فهل يسقط الحد عنه بالتوبة ؟ قولان ، أظهرهما وهو الجديد : لا يسقط ، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدود والزواجر ، ثم قيل : القولان فيمن تاب قبل الرفع إلى القاضي ، فأما بعده ، فلا يسقط قطعا ، وقيل : هما في الحالين .

فرع

إذ ثبت زناه ببينة ، لم يسقط الحد برجوع ولا بالتماس ترك الحد ، ولا بالهرب ولا غيرها ، هذا هو المذهب ، وفيه خلاف حكاه الإمام ، ولو أقر بالزنا ، ثم شهد عليه أربعة بالزنا ، ثم رجع عن الإقرار ، هل يحد ؟ وجهان ، قال ابن القطان : نعم ، وأبو إسحاق : لا ، إذ لا أثر للبينة مع الإقرار وقد بطل الإقرار .

فرع

الكلام في عدد الشهود لزنا ورجوع بعضهم أو كلهم مذكور في كتاب الشهادات ، وهناك يذكر إن شاء الله تعالى كيفية الشهادة وأنه يشترط تفسير الزنا بخلاف القذف ، فإنه لو قال : زنيت ، كان قاذفا لحصول العار ، وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفسير كالشهادة أم لا كالقذف ؟ وجهان .

قلت : الاشتراط أقوى ، ويستأنس فيه بقصة ماعز رضي الله عنه . والله أعلم .

[ ص: 98 ] وسواء شهدوا بالزنا في مجلس ، أو مجالس متفرقة ، ولو شهدوا ثم غابوا ، أو ماتوا ، فللحاكم أن يحكم بشهادتهم ويقيم الحد .

وتقبل الشهادة بالزنا بعد تطاول الزمن ، ولو شهد أربعة على امرأة بالزنا ، وشهد أربع نسوة أنها عذراء ، فلا حد للشبهة ، ولو قذفها قاذف ، لم يلزمه حد القذف لوجود الشهادة ، واحتمال عود البكارة ، وكذا لا يجب حد القذف على الشهود ، ولو أقامت هي أربعة على أنه أكرهها على الزنا وطلبت المهر ، وشهد أربع نسوة أنها عذراء ، فلا حد عليه للشبهة ، وعليه المهر ; لأنه يثبت مع الشبهة ، ولا يجب عليها حد القذف لشهادة الشهود ، ولو شهد اثنان أنه وطئها بشبهة ، وأربع نسوة أنها عذراء ، فلا حد عليه للشبهة ويجب المهر ، ولو شهد أربعة عليها بالزنا ، وشهد أربع نسوة أنها رتقاء ، فليس عليها حد الزنا ، ولا عليهم حد القذف ; لأنهم رموا من لا يمكنه الجماع ، ولو شهد أربعة بالزنا وعين كل واحد منهم زاوية من زاويا بيت ، فلا حد على المشهود عليه ، وفي وجوب حد القذف على الشهود خلاف يأتي إن شاء الله تعالى ; لأنه لم يتم عددهم في زنية ، ولو شهد اثنان أن فلانا أكره فلانة على الزنا ، لم يثبت الزنا وهل يثبت المهر ؟ يبنى على أنه إذا شهد بالزنا أقل من أربعة هل عليهم حد القذف ، إن قلنا : لا ، وجب المهر ، وإلا فلا ، ولو شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة ، وآخر أنه زنى بها طائعة ، لم يجب عليها حد الزنا ، وهل يجب على الرجل ؟ يبنى على أن شاهدي الطواعية هل عليهما حد القذف للمرأة ، قولان ، إن قلنا : نعم ، وهو الأظهر ، فلا ؛ لأن الشاهدين فاسقان ، وإن قلنا : لا ، وجب على الأصح ، لاتفاقهم على زناه ، وكذلك يجب عليه المهر ، ولا خلاف أنه لا يجب حد القذف على شاهدي الإكراه ولا يجب حد القذف للرجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية