صفحة جزء
[ ص: 99 ] الباب الثاني في استيفاء الحد

فيه طرفان : الأول : في كيفيته ، وفيه مسائل :

إحداها : إقامة الحدود على الأحرار إلى الإمام ، أو من فوض إليه الإمام ، وإذا أمر باستيفائه ، جاز للمفوض إليه ، ولا يجب حضور الإمام ، سواء ثبت بالبينة أو الإقرار ، ولا حضور الشهود إذا ثبت بالبينة ، لكن يستحب حضورهم وابتداؤهم بالرجم ، ويستحب أن يستوفى بحضرة جماعة أقلهم أربعة .

الثانية : لا يقتل المحصن بالسيف ; لأن المقصود التمثيل به وتنكيله بالرجم فيرجم ، وليس لما يرجم به تقدير ، لا جنسا ولا عددا ، فقد تصيب الأحجار مقاتله ، فيموت سريعا ، وقد تبطئ موته ، ولا يرمى بصخرة تذفف ، ولا يطول تعذيبه بالحصيات الخفيفة ، بل يحيط الناس به فيرمونه من الجوانب بحجارة معتدلة ومدر ونحوها حتى يموت ، فإن كان رجلا لم يحفر له عند الرجم سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار ، وفي المرأة أوجه ، أحدها : يستحب أن يحفر إلى صدرها ليكون أستر لها ، والثاني : لا يستحب ، بل هو إلى خيرة الإمام ، وأصحها : إن ثبت زناها بالبينة يستحب أن يحفر ، وإن ثبت بالإقرار ، فلا ليمكنها الهرب إن رجعت .

الثالثة : الصحيح الذي قطع به الجمهور أن الرجم لا يؤخر للمرض ; لأن نفسه مستوفاة ، فلا فرق بينه وبين الصحيح ، وقيل : إن ثبت بالإقرار ، أخر حتى يبرأ ; لأنه ربما رجع في أثناء الرمي فيعين ذلك على قتله ، ومثل هذا الخلاف يعود في أنه هل يرجم في شدة الحر والبرد ؟ وإن كان الواجب الجلد ، فإن كان المرض مما يرجى زواله ، أخر حتى يبرأ ، وكذا المحدود والمقطوع في حد وغيره لا يقام عليه حد آخر حتى [ ص: 100 ] يبرأ ، وفي وجه : لا يؤخر ، بل يضرب في المرض بحسب ما يحتمله من ضرب بعثكال وغيره ، ولو ضرب كما يحتمله ، ثم برأ هل يقام عليه حد الأصحاء ؟ وجهان حكاهما ابن كج وليكونا مبنيين على أنه هل تؤخر إقامة الجلد أم تستوفى بحسب الإمكان ؟ إن قلنا بالأول ، فالذي جرى ليس بحد ، فلا يسقط كما لو جلد المحصن لا يسقط الرجم ، وإن قلنا بالثاني ، لم يعد الحد ، وإن كان المرض مما لا يرجى زواله ، كالسل والزمانة ، أو كان مخدجا وهو الضعيف الخلقة الذي لا يحتمل السياط ، لم يؤخر إذ لا غاية تنتظر ، ولا يضرب بالسياط ، بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ ، وهو الغصن ذو الفروع الخفيفة ، ولا يتعين العثكال ، بل له الضرب بالنعال وأطراف الثياب ، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما ، فلو كان على الغصن مائة فرع ، ضرب به دفعة واحدة ، وإن كان عليه خمسون ، ضرب به مرتين ، وعلى هذا القياس ، ولا يكفي الوضع عليه ، بل لا بد مما يسمى ضربا ، وينبغي أن تمسه الشماريخ ، أو ينكبس بعضها على بعض لثقل الغصن ، ويناله الألم ، فإن لم تمسه ، ولا انكبس بعضها على بعض ، أو شك فيه ، لم يسقط الحد ، وفي " النهاية " وجه ضعيف أنه لا يشترط الإيلام ، ولا تفرق السياط على الأيام ، وإن احتمل التفريق ، بل يقام عليه الممكن ويخلى سبيله ، ولو كان لا يحتمل السياط المعتبرة في جلد الزنا ، وأمكن ضربه بقضبان وسياط خفيفة فقد تردد فيه الإمام وقال : ظاهر كلام الأصحاب أنه يضرب بالشماريخ ، والذي أراه أنه يضرب بالأسواط ; لأنه أقرب إلى صور الحد ، ولو برأ قبل أن يضرب بالشماريخ ، أقيم عليه حد الأصحاء ، وإن برأ بعد ، لم يعد عليه ، وفي إقامة الضرب بالشماريخ مقام الضربات والجلد بالسياط مزيد كلام نذكره في الأيمان إن شاء الله تعالى .

[ ص: 101 ] فرع

يؤخر قطع السرقة إلى البرء ، ولو سرق من لا يرجى زوال مرضه ، قطع على الصحيح ، لئلا يفوت الحد ، ولو وجب حد القذف على مريض ، قال ابن كج : يقال للمستحق : اصبر إلى البرء ، أو اقتصر على الضرب بالعثكال ، وفي " التهذيب " أنه يجلد بالسياط ، سواء يرجى زوال مرضه أم لا ; لأن حقوق الآدمي مبنية على الضيق ، وجلد الشرب كجلد الزنا .

فرع

الرابعة : لا يقام الجلد في حر ولا برد شديدين ، بل يؤخر إلى اعتدال الوقت ، وكذا القطع في السرقة بخلاف القصاص وحد القذف ، وأما الرجم ، فإن ثبت بالبينة ، لم يؤخر ; لأنه مقتول ، وكذا إن ثبت بالإقرار على الصحيح .

فرع

لو جلد الإمام في مرض أو شدة حر أو برد ، فهلك المجلود بالسراية ، فالنص أنه لا يضمن ، ونص أنه لو ختن أقلف في شدة حر أو برد فهلك ضمن ، فقيل في وجوب الضمان فيهما : قولان ، وقيل : بظاهر النصيحة وهو الأصح ; لأن الجلد ثبت بالنص ، والختان بالاجتهاد ، فإن أوجبنا الضمان ، فهل يضمن جميعه أم نصفه ؟ وجهان ، وهل الضمان على عاقلة الإمام أم في بيت المال ؟ قولان سبقا ، قال الإمام : إن لم نوجب الضمان فالتأخير مستحب قطعا ، وإن أوجبناه فوجهان ، أحدهما : أن التأخير واجب ، وضمناه لتركه الواجب ، والثاني : يجوز التعجيل [ ص: 102 ] ولكن بشرط سلامة العاقبة كما في التعزير ، وفي عبارة الغزالي ما يشعر بأن الراجح استحباب التأخير ، وفي " المهذب " وغيره الجزم بأنه لا يجوز التعجيل في شدة الحر والبرد ، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في وجوب الضمان ، كما يجب على آحاد الناس تفويض رجم الزاني المحصن إلى الإمام مع الاختلاف في ضمانه لو بادر بقتله .

قلت : المذهب وجوب التأخير مطلقا .

والله أعلم .

ولو عجل جلد المريض قبل برئه ، فهلك ، ففي ضمانه الخلاف في الجلد في الحر والبرد بلا فرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية