صفحة جزء
الطرف الثاني في وجوب الجهاد

قد يكون فرض كفاية ، وقد يتعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وهل كان فرض كفاية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أم فرض عين ؟ فيه وجهان ، أصحهما : فرض كفاية لقوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون ) الآية ، وأما اليوم فهو ضربان ، أحدهما : أن يكون الكفار مستقرين في بلدانهم ، فهو فرض كفاية ، فإن امتنع الجميع منه ، أثموا ، وهل يعمهم الإثم ، أم يختص بالذين يدنوا إليه ؟ وجهان .

قلت : الأصح أنه يأثم كل من لا عذر له كما سيأتي بيان الأعذار إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

وإن قام من فيه كفاية ، سقط عن الباقين . وتحصل الكفاية بشيئين .

أحدهما : أن يشحن الإمام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار ، وينبغي أن يحتاط بإحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوهما ، ويرتب في كل ناحية أميرا كافيا يقلده الجهاد وأمور المسلمين .

الثاني : أن يدخل الإمام دار الكفر غازيا بنفسه ، أو بجيش يؤمر عليهم من يصلح لذلك ، وأقله مرة واحدة في كل سنة ، فإن زاد فهو أفضل ، ويستحب أن يبدأ بقتال من يلي دار الإسلام من الكفار ، فإن كان الخوف من الأبعدين أكثر ، بدأ بهم ، ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد [ ص: 209 ] إلا لضرورة ، بأن يكون في المسلمين ضعف وفي العدو كثرة ، ويخاف من ابتدائهم الاستئصال ، أو لعذر بأن يعز الزاد وعلف الدواب في الطريق ، فيؤخر إلى زوال ذلك ، أو ينتظر لحاق مدد ، أو يتوقع إسلام قوم ، فيستميلهم بترك القتال ، هذا ما نصر عليه الشافعي ، وجرى عليه الأصحاب - رحمهم الله - وقال الإمام : المختار عندي في هذا مسلك الأصوليين ، فإنهم قالوا : الجهاد دعوة قهرية ، فيجب إقامته بحسب الإمكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ، ولا يختص بمرة في السنة ، ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة ، وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة ، وهي أن الأموال والعدد لا تتأتى لتجهيز الجنود في السنة أكثر من مرة ، ثم إن تمكن الإمام من بث الأجناد للجهاد في جميع الأطراف ، فعل ، وإلا فيبدأ بالأهم فالأهم ، وينبغي له أن يرعى النصفة بالمناوبة بين الأجناد في الإغزاء ، ويسقط الوجوب في هذا الضرب بأعذار .

منها : الصغر والجنون والأنوثة ، وللإمام أن يأذن للمراهقين والنساء في الخروج ، وأن يستصحبهم لسقي الماء ومداواة المرضى ومعالجة الجرحى ، ولا يأذن للمجانين بحال ، ولا جهاد على الخنثى .

ومنها : المرض ، فلا جهاد على من به مرض يمنعه من القتال والركوب على دابة ، ولا على من لا يمكنه القتال إلا بمشقة شديدة ، ولا اعتبار بالصداع ووجع الضرس والحمى الخفيفة ونحوها .

ومنها : العرج ، فلا جهاد على من به عرج بين وإن قدر على الركوب ووجد دواب ، وقيل : يلزمه الجهاد راكبا ، والصحيح الأول ، وسواء العرج في رجل أو رجليه ، ولا اعتبار بعرج يسير لا يمنع المشي ، ولا جهاد على أشل اليد ، ولا من فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الأقل .

ومنها : العمى ، فلا جهاد على أعمى ، ويجب على الأعور والأعشى [ ص: 210 ] وعلى ضعيف البصر إن كان يدرك الشخص ، ويمكنه أن يتقي السلاح .

ومنها : الفقر ، فلا جهاد على من عجز عن سلاح وأسباب القتال ، ويشترط أن يجد نفقة طريقه ذهابا ورجوعا ، فإن لم يكن له أهل ولا عشيرة ، ففي اشتراط نفقة الرجوع وجهان سبقا في الحج ، فإن كان القتال على باب البلد ، أو حواليه ، سقط اشتراط نفقة الطريق ، ويشترط وجدان راحلة إن كان سفره مسافة القصر ، ويشترط كون جميع ذلك فاضلا عن نفقة من يلزمه نفقته ، وسائر ما ذكرناه في الحج ، وكل عذر يمنع وجوب الحج ، يمنع وجوب الجهاد إلا أمن الطريق ، فإنه شرط هناك ولا يشترط هنا ؛ لأن مبنى الغزو على ركوب المخاوف ، هذا إن كان الخوف من طلائع الكفار ، وكذا لو كان من متلصصي المسلمين على الصحيح ، ولو بذل للفاقد ما يحتاج إليه ، لم يلزمه قبوله ، إلا أن يبذله الإمام ، فيلزمه أن يقبل ويجاهد ؛ لأن ما يعطيه الإمام حقه ، ولا يلزم الذمي الجهاد ، والحاصل أن الجهاد لا يجب إلا على مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستطيع ، ولا جهاد على رقيق وإن أمره سيده ؛ إذ ليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد ، ولا يلزمه الذب عن سيده عند خوفه على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير ، بل السيد في ذلك كالأجنبي ، وللسيد استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه ويسوس دوابه ، والمدبر والمكاتب ومن بعضه حر لا جهاد عليهم .

فرع

مما يمنع وجوب الجهاد الدين ، فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه ، وله أن يمنعه السفر لتوجه المطالبة به ، والحبس إن امتنع ، وإن كان معسرا ، فليس له منعه على الصحيح ؛ إذ لا مطالبة في الحال ، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر ، فله الخروج ، وإن أمره بالقضاء من مال [ ص: 211 ] غائب ، فلا ، ومتى أذن صاحب الدين ، فله الخروج ، ويلتحق بأصحاب فرض الكفاية ، وفيه احتمال للإمام ، وإن كان الدين مؤجلا ، فله أن يخرج في سفر لا يغلب فيه الخطر على ما سبق في التفليس ، وهل لصاحب الدين منعه من سفر الجهاد ؟ فيه خمسة أوجه ، أصحها : لا . والثاني : نعم ، إلا أن يقيم كفيلا بالدين . والثالث : له المنع إن لم يخلف وفاء . والرابع : له المنع إن لم يكن من المرتزقة ، والخامس : له ذلك إن كان الدين يحل قبل رجوعه ، وركوب البحر كسفر الجهاد على الأصح .

فرع

من أحد أبويه حي ، يحرم عليه الجهاد إلا بإذنه ، أو بإذنهما إن كانا حيين مسلمين ، ولا يحتاج إلى إذن كافر ، والأجداد والجدات كالوالدين ، وقيل : لا يشترط إذن الجد مع وجود الأب ، ولا الجدة مع وجود الأم ، والأول أصح ، وليس للوالد منع الولد من حجة الإسلام على الصحيح ، وله المنع من حج التطوع ، وأما سفره لطلب العلم ، فإن كان لطلب ما هو متعين ، فله الخروج بغير إذنهما ، وليس لهما المنع ، وإن كان لطلب ما هو فرض كفاية ، بأن خرج لطلب درجة الفتوى وفي الناحية مستقل بالفتوى ، فليس لهما المنع على الأصح ، فإن لم يكن هناك مستقل ، ولكن خرج جماعة ، فليس لهما على المذهب ؛ لأنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود ، والخارجون ، فلا يظفرون بالمقصود ، وإن لم يخرج معه أحد ، لم يحتج إلى إذن ، ولا منع لهما قطعا ؛ لأنه يدفع الإثم عن نفسه ، كالفرض المتعين عليه ، وقيد بعضهم هذه الصورة بما إذا لم يمكنه التعلم في بلده ، ويجوز أن لا يشترط ذلك ، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما ، كما لم يقيد الحكم في سفر التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده ، بل اكتفي بتوقع زيادة ربح ، أو رواج ، وأما سفر [ ص: 212 ] التجارة وغيره ، فإن كان قصيرا ، فلا منع منه بحال ، وإن كان طويلا ، نظر إن كان فيه خوف ظاهر ، كركوب بحر أو بادية مخطرة ، وجب الاستئذان على الصحيح ، ولهما المنع ، وإن كان الأمن غالبا ، فالأصح أنه لا منع ولا يلزمه الاستئذان ، والولد الكافر في هذه الأسفار كالمسلم ، بخلاف سفر الجهاد ، فإنه متهم فيه ، والرقيق كالحر على الصحيح لشمول معنى البر والشفقة .

فرع

من خرج للجهاد بإذن صاحب الدين أو الوالدين ، ثم رجعوا عن الإذن ، أو كان الأبوان كافرين ، فخرج ثم أسلما ، ولم يأذنا ، وعلم المجاهد الحال ، فإن لم يشرع في القتال ، ولم يحضر الوقعة لزمه الانصراف إلا أن يخاف على نفسه أو ماله أو يخاف انكسار قلوب المسلمين ، فلا يلزمه ، فإن لم يمكنه الانصراف للخوف ، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطريق حتى يرجع الجيش ، لزمه أن يقيم ، وأوهم في " الوسيط " خلافا في وجوب الإقامة هناك ، وحكى ابن كج قولا أنه لا يلزمه الانصراف ، والمشهور الأول ، وإن علم بعد الشروع في القتال ، فأربعة أوجه ، أصحها : تجب المصابرة ، ويحرم الانصراف ، والثاني : يجب الانصراف ، والثالث : يتخير بين الانصراف والمصابرة ، والرابع : يجب الانصراف إن رجع صاحب الدين دون الأبوين إن رجع ، لعظم شأن الدين ومن شرط عليه الاستئذان ، فخرج بلا إذن ، لزمه الانصراف ما لم يشرع في القتال ؛ لأن سفره سفر معصية إلا أن يخاف على نفسه أو ماله ، فإن شرع في القتال ، فوجهان مرتبان ، وهذه الصورة أولى بوجوب الانصراف ؛ لأن أول الخروج معصية ، ولو خرج عبد بغير إذن سيده ، لزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة ، فإن حضر ، فلا ، قال الروياني : يستحب الرجوع .

[ ص: 213 ] فرع

لو مرض من خرج للجهاد أو عرج ، أو فني زاده ، أو هلكت دابته ، فله أن ينصرف ما لم يحضر الوقعة ، وكذا الحكم لو كان العذر حاصلا وقت الخروج ، فإن حضر الوقعة ، فهل يلزمه الثبات أم له الرجوع ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، قال الإمام : والوجهان إذا لم يورث انصرافه فشلا في الجند ، فإن أورثه ، حرم الرجوع قطعا ، وفي " التهذيب " في صورة موت الدابة يلزمه القتال راجلا إن أمكنه ذلك ، وإلا فلا ، وقيل : إذا انقطع عنه سلاحه ، أو انكسر ، لزمه القتال بالحجارة إن أمكنه .

فرع

حيث جوزنا الانصراف لرجوع الأبوين أو صاحب الدين عن الإذن ، أو لحدوث المرض ونحوه ، فليس للسلطان حبسه ، قال الشافعي - رحمه الله - : إلا أن يتفق ذلك لجماعة ، ويخشى من انصرافهم خلل في المسلمين ، ولو انصرف لذهاب نفقة ، أو هلاك دابة ، ثم قدر على النفقة والدابة في بلاد الكفار ، لزمه الرجوع للجهاد ، وإن كان فارق بلاد الكفر ، لم يلزمه الرجوع ، وعن نصه أن من خرج للجهاد ، وبه عذر مرض وغيره ، ثم زال عذره ، وصار من أهل فرض الجهاد ، لم يكن له الرجوع عن الغزو ، وكذا لو حدث العذر ، وزال قبل أن ينصرف .

فرع

من شرع في قتال ولا عذر له ، لزمه المصابرة ، وعبر الأصحاب عن هذا بأن الجهاد يصير متعينا على من هو من أهل فرض الكفاية بالشروع ، ولو اشتغل شخص بالتعلم ، وأنس الرشد فيه من نفسه ، هل يحرم عليه قطعه ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، فيلزمه الإتمام ، قاله القاضي حسين ، وأصحهما : لا ؛ لأن الشروع لا يغير حكم المشروع فيه بخلاف الجهاد ، فإن رجوعه يؤدي إلى التخذيل ، وهل يجب إتمام صلاة الجنازة إذا [ ص: 214 ] شرع فيها ؟ وجهان ، قال القفال : لا ، وقال الجمهور : نعم ، وهو الأصح ، قال الغزالي : الأصح أن العلم وسائر فروض الكفاية تتعين بالشروع .

التالي السابق


الخدمات العلمية