صفحة جزء
فصل

ومن فروض الكفاية إحياء الكعبة بالحج في كل سنة ، هكذا أطلقوه ، وينبغي أن تكون العمرة كالحج ، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام ، فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك .

قلت : لا يحصل مقصود الحج بما ذكر فإنه مشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى ، وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك . والله أعلم .

ومنها : ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس ، كدفع الضرر عن المسلمين ، وإزالة فاقتهم ، كستر العورة ، وإطعام الجائعين ، وإغاثة المستغيثين في النائبات ، فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تف الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم ، ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها ، فلو انسدت الضرورة ، فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة ؟ حكى الإمام فيه وجهين .

[ ص: 222 ] قلت : قال الإمام في كتابه " الغياثي " : يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة .

وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش ، كالبيع والشراء والحراثة ، وما لا بد منه حتى الحجامة والكنس ، فالنفوس مجبولة على القيام بها ، فلا تحتاج إلى حث عليها وترغيب فيها ، لكن لو امتنع الخلق منها ، أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم ، فهي إذن من فروض الكفاية .

فصل

ومن فروض الكفاية ما يتعلق بالدين ، وبصلاح المعيشة ، كتحمل الشهادة وأدائها ، وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق ونحو ذلك ، وكتجهيز الموتى غسلا وتكفينا وصلاة ودفنا ونحو ذلك .

فصل

من العلوم ما يتعين طلبه وتعلمه ، ومنها فرض كفاية .

فمن المتعين : ما يحتاج إليه لإقامة مفروضات الدين ، كالوضوء والصلاة والصيام وغيرها ، فإن من لا يعلم أركان الصلاة وشروطها لا يمكنه إقامتها ، وإنما يتعين تعلم الأحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها بلوى ، وإن كان له مال زكوي ، لزمه تعلم [ ص: 223 ] ظواهر أحكام الزكاة ، قال الروياني : هذا إذا لم يكن له ساع يكفيه الأمر .

قلت : الراجح أنه لا يسقط عنه التعلم بالساعي ، إذ قد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي .

ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعين عليه معرفة أحكام التجارات ، وكذا ما يحتاج إليه صاحب كل حرفة يتعين عليه تعلمه ، والمراد الأحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة . وأما فرض الكفاية ، فالقيام بعلوم الشرع فرض كفاية ، ويدخل في ذلك : التفسير والحديث على ما سبق في الوصية ، ومنها : أن ينتهي في معرفة الأحكام إلى حيث يصلح للفتوى والقضاء كما سنذكره في أدب القاضي - إن شاء الله تعالى - وهناك يتبين أن المجتهد في الشرع مطلقا يفتي ، وأن المتبحر في مذهب بعض الأئمة المجتهدين يفتي أيضا على الصحيح ، ولا يكفي أن يكون في الإقليم مفت واحد ، لعسر مراجعته ، واعتبر الأصحاب فيه مسافة القصر ، وكأن المراد أن لا يزيد ما بين كل مفتيين على مسافة القصر ، وأما العلوم العقلية ، فمنها ما هو فرض كفاية ، كالطب والحساب المحتاج إليه ، وقسمة الوصايا والمواريث ، قال الغزالي : ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية ، فإن الحرف والصناعات التي لا بد للناس منها في معايشهم ، كالفلاحة فرض كفاية ، فالطب والحساب أولى ، وأما أصول العقائد ، فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على ما ورد به القرآن والسنة فرض عين ، وأما العلم المسمى علم الكلام ، فليس بفرض عين ، ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يشتغلون به ، قال الإمام : ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام لما أوجبنا التشاغل به ، وربما نهينا عنه ، فأما اليوم وقد ثارت البدع ، فلا سبيل إلى تركها [ ص: 224 ] تلتطم ، ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق ، وتزال به الشبه ، فصار الاشتغال بأدلة العقول فرض كفاية ، فأما من استراب في أصل من أصول الاعتقاد ، فيلزمه السعي في إزاحته حتى تستقيم عقيدته .

قلت : ولا يتعين تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك ، فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من إتمام تعلمها مع الفعل في الوقت ، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت ؟ تردد فيه الغزالي ، والأصح : ما جزم به غيره أنه يلزمه ، كما يلزم السعي إلى الجمعة قبل الوقت لمن بعد منزله ، وإذا كان ما تعلق به الوجوب على الفور ، كان تعلم كيفيته على الفور ، وإن كان على التراخي ، كالحج ، فتعلم الكيفية على التراخي ، وأما علم القلب ، كالحسد والعجب والرياء وشبهها ، فقد قال الغزالي : معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين ، وقال غيره : فيه تفصيل ، فمن رزق قلبا سليما من هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك ، ومن لم يسلم وتمكن من تطهير قلبه بغير تعلم العلم المذكور ، وجب تطهيره ، وإن لم يتمكن إلا بتعلم ، وجب ، وقد سبق في كتاب الصلاة وجوب تعليم الصغار على أوليائهم ، ومن فرض الكفاية ، معرفة أصول الفقه والفقه ، والنحو واللغة والتصريف ، وأسماء الرواة ، والجرح والتعديل ، واختلاف العلماء واتفاقهم ، وقد يكون من العلم مستحب ، كالتبحر في أصول الأدلة بالزيادة على القدر الذي يحصل به فرض الكفاية ، وكتعلم العامي نوافل العبادات لغرض العمل ، لا لما يقوم به المجتهدون من تمييز الفرض من النفل ، فإن ذلك فرض كفاية في حقهم ، قال صاحب " الحاوي " : وإنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط وهي : أن يكون مكلفا ، وممن يتقلد القضاء ، لا عبدا ولا امرأة ، وأن يكون بليدا ، وأن يقدر على الانقطاع إليه بأن تكون له كفاية ، ويدخل الفاسق في الفرض ولا [ ص: 225 ] يسقط به ؛ لأنه لا تقبل فتواه للمستفتين ، وفي دخول المرأة والعبد وجهان ؛ لأنهما أهل للفتوى دون القضاء . واعلم أن تعليم الطالبين ، وإفتاء المستفتين فرض كفاية ، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا وكان هناك جماعة ، ولا يحصل الغرض إلا بكلهم ، تعين عليهم ، وإذا كان هناك غير المفتي ، هل يأثم بالرد ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، وينبغي أن يكون المعلم كذلك ، ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي ، فهذه أنواع العلوم الشرعية ، ووراءها أشياء تسمى علوما ، منها : محرم ومكروه ومباح ، فالمحرم ، كالفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين ، وكذا السحر على الصحيح ، فكل ذلك محرم ، وتتفاوت دركات تحريمه . والمكروه : كأشعار المولدين المشتملة على الغزل والبطالة . والمباح : كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف ، ولا شيء مما يكره ، ولا ينشط إلى الشر أو يثبط عن الخير ولا يحث عليه ، أو يستعان به عليه . والله أعلم .

فرع

إذا تعطل فرض كفاية ، أثم كل من علم به ، وقدر على القيام به ، وكذا من لم يعلم ، وكان قريبا من الموضع يليق به البحث والمراقبة ، قال الإمام : ويختلف هذا بكبر البلد وصغره ، وقد يبلغ التعطل مبلغا ينتهي خبره إلى سائر البلاد ، فيجب عليهم السعي في التدارك ، وفي الصورة دليل على أنه لا يجوز الإعراض والإهمال ، ويجب البحث والمراقبة على ما يليق الحال .

فرع

إذا قام بالفرض جمع لو قام به بعضهم يسقط الحرج عن الباقين ، [ ص: 226 ] كانوا كلهم مؤدين للفرض ، ولا مزية للبعض على البعض ، وإذا صلى على الجنازة جمع ، ثم آخرون ، كانت صلاة الآخرين فرض كفاية كالأولين .

قلت : للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين ، وقد قال إمام الحرمين في كتابه " الغياثي " : الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين ؛ لأنه لو ترك المتعين ، اختص هو بالإثم ، ولو فعله ، اختص بسقوط الفرض ، وفرض الكفاية لو تركه ، أثم الجميع ، وفرض الكفاية لو فعله ، سقط الحرج عن الجميع ، وفاعله ساع في صيانة الأمة عن المأثم ، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية