صفحة جزء
[ ص: 323 ] فصل

وأما ما يلزمهم : فخمسة أمور . الأول : في الكنائس والبيع ، فالبلاد التي في حكم المسلمين قسمان ، أحدهما : ما أحدثه المسلمون ، كبغداد والكوفة والبصرة ، فلا يمكن أهل الذمة من إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب فيها ، ولو صالحهم على التمكن من إحداثها ، فالعقد باطل ، والذي يوجد في هذه البلاد من البيع والكنائس وبيوت النار لا ينقض لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل بها عمارة المسلمين ، فإن عرف إحداث شيء بعد بناء المسلمين ، نقض .

الثاني : بلاد لم يحدثوها ودخلت تحت أيديهم ، فإن أسلم أهلها ، كالمدينة واليمن ، فحكمها كالقسم الأول ، وإلا فإما أن تفتح عنوة أو صلحا ، الضرب الأول : ما فتح عنوة ، فإن لم يكن فيها كنيسة ، أو كانت وانهدمت ، أو هدمها المسلمون وقت الفتح أو بعده ، فلا يجوز لهم بناؤها ، وهل يجوز تقريرهم على الكنيسة القائمة ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، وبه قطع جماعة ، الثاني : ما فتح صلحا وهو نوعان ، أحدهما : فتح على أن رقبة الأرض للمسلمين ، وهم يسكنونها بخراج ، فإن شرطوا إبقاء البيع والكنائس ، جاز ، وكأنهم صالحوا على أن الكنائس لهم وما سواها لنا ، وإن صالحوا على إحداثها أيضا ، جاز ، ذكره الروياني وغيره ، وإن أطلقوا ، لم تبق الكنائس على الأصح ، الثاني : ما فتح على أن البلد لهم يؤدون خراجه ، فيقرون على الكنائس ولا يمنعون من إحداثها فيه على الأصح ، لأن الملك والدار لهم ، ويمكنون فيها من إظهار الخمر والخنزير والصليب ، وإظهار ما لهم [ ص: 324 ] من الأعياد ، وضرب الناقوس ، والجهر بالتوراة والإنجيل ، ولا شك في أنهم لا يمنعون من إيواء الجاسوس ، وتبليغ الأخبار ، وما يتضرر به المسلمون في ديارهم ، وحيث قلنا : لا يجوز الإحداث ، وجوزنا إبقاء الكنيسة ، فلا منع من عمارتها إذا استرمت ، وهل يجب إخفاء العمارة ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، لأن إظهارها زينة تشبه الاستحداث ، وأصحهما : لا ، فيجوز تطيينها من داخل وخارج ، ويجوز إعادة الجدار الساقط ، وعلى الأول يمنعون من تطيين خارجها ، وإذا أشرف الجدار على الخراب ، فلا وجه إلا أن يبنوا جدارا داخل الكنيسة ، وقد تمس الحاجة إلى جدار ثالث ورابع ، فينتهي الأمر إلى أنه لا يبقى من الكنيسة شيء ، ويمكن أن يكتفي من يوجب الإخفاء بإسبال ستر تقع العمارة وراءه ، أو بإيقاعها في الليل ، وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة ، فلهم إعادتها على الأصح ، ومنعها الإصطخري وابن أبي هريرة ، فإن جوزنا ، فليس لهم توسيع خطتها على الصحيح ، ويمنعون من ضرب الناقوس في الكنيسة ، كما يمنعون من إظهار الخمر ، وقيل : لا يمنعون تبعا للكنيسة ، وهذا الخلاف في كنيسة بلد صالحناهم على أن أرضه لنا ، فإن صالحناهم على أن الأرض لهم ، فلا منع قطعا كما سبق ، قال الإمام : وأما ناقوس المجوس ، فلست أرى فيه ما يوجب المنع ، وإنما هو محوط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم ، وليس كالبيع والكنائس ، فإنها تتعلق بالشعار .

الأمر الثاني : في البناء ، فيمنعون من إطالته ورفعه على بناء جيرانهم من المسلمين ، فإن فعلوا ، هدم ، هذا هو المذهب ، وحكى ابن كج قولا آخر : أن لهم الرفع ، فعلى المذهب الاعتبار ببناء جاره على الصحيح ، وفي وجه : لا يطيل على بناء أحد من المسلمين في ذلك المصر ، وسواء كان بناء الجار معتدلا أو في غاية القصر ، وللإمام احتمال فيما هو في غاية القصر ، ثم المنع لحق الدين لا لمحض حق الجار ، فيمنع ولو [ ص: 325 ] رضي الجار ، وهذا المنع واجب ، وقيل : مستحب ، ويمنعون من المساواة على الأصح ، ولو كان أهل الذمة في موضع منفرد ، كطرف من البلد منقطع عن العمارة ، فلا منع من رفع البناء على الصحيح ، ولو ملك ذمي دارا رفيعة البناء ، لم يكلف هدمها ، فإن انهدمت ، فأعادها ، منع من الرفع ، وفي المساواة الوجهان ، ولو فتحت بلدة صلحا على أنها للمسلمين ، لم تهدم أبنيتهم الرفيعة فيها ويمنعون من الإحداث ، ذكره البغوي .

الثالث : يمنعون من ركوب الخيل على الصحيح ، لأن فيه عزا ، وحكى ابن كج أن لا منع ، كما لا منع من ثياب نفيسة ، واستثنى الشيخ أبو محمد البراذين ، وفي البغال وجهان ، أحدهما : المنع ، وبه قال الفوراني والإمام والغزالي ، وأصحهما : لا منع ، وبه قطع كثيرون ، ولا منع من الحمر وإن كانت رفيعة القيمة ، وإذا ركبوا ، لم يركبوا السروج بل الأكف ، ويركبون عرضا ، وهو أن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد وعن الشيخ أبي حامد أن لهم الركوب على استواء ، ويحسن أن يتوسط ، فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة في البلد ، أو إلى مسافة بعيدة ، فيمنع في الحضر ويكون ركابهم من خشب لا حديد ، وجوز ابن أبي هريرة الحديد ، ويمنعون من تقلد السيوف وحمل السلاح ، ومن لجم الذهب والفضة ، وذكر ابن كج أن هذا كله في الذكور البالغين ، فأما النساء والصغار ، فلا يلزمون الصغار ، كما لا جزية عليهم .

فرع

لا يترك لذمي صدر الطريق ، بل يلجأ إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون ، فإن خلت الطرق عن الزحمة ، فلا حرج ، وليكن الضيق بحيث لا يقع في وهدة ، ولا يصدمه جدار ، ولا يوقر ، ولا يصدر في مجلس إذا [ ص: 326 ] كان فيه مسلمون ، ولا يجوز لمسلم أن يوادهم ، ولا أن يبدأ من لقيه منهم بسلام ، وإن بدأ الذمي به ، فلا يجيبه ، ذكره البغوي .

قلت : هذا الذي ذكره البغوي هو وجه حكاه الماوردي ، والصحيح بل الصواب : أن يجاب بما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، وعليكم ، وفي هذه المسألة كلام كثير وتفصيل أوضحته في كتاب السلام من كتاب " الأذكار " . والله أعلم .

الرابع : يؤخذ أهل الذمة في دار الإسلام بالتميز في اللباس ، بأن يلبسوا الغيار ، وهو أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها ، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل ، هكذا أطلق ، ويشبه أن يقال : لا يختص بالكتف ، والشرط الخياطة في موضع لا يعتاد ، وإلقاء منديل ونحوه ، كالخياطة ، ثم الأولى باليهود العسلي ، وهو الأصفر ، وبالنصارى الأزرق أو الأكهب ، ويقال له : الرمادي ، وبالمجوس الأسود أو الأحمر ، ويؤخذون أيضا بشد الزنار ، وهو خيط غليظ على أوساطهم خارج الثياب ، وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما ، وإن لبسوا قلانس ، ميزت عن قلانس المسلمين بذؤابة ، أو علم في رأسها ، وإذا دخلوا حماما فيه مسلمون ، أو تجردوا عن الثياب ، فليكن عليهم جلاجل ، أو في أعناقهم خواتيم حديد ، أو رصاص لا ذهب وفضة ، هكذا ذكره الجمهور ، وقال في " المهذب " : يجعل في عنقه خاتم ليتميز في الحمام وفي الأحوال التي يتجرد فيها ، وبين العبارتين تفاوت ظاهر ، وإذا كان لهم شعر ، أمروا بجز النواصي ، ومنعوا من إرسال الضفائر ، والجمع بين الغيار والزنار تأكيد ومبالغة في شهرهم ، ويجوز أن يقتصر الإمام على اشتراط أحدهما ، وهل تؤخذ النساء بالغيار ، وشد الزنار ، والتميز في الحمام ؟ وجهان ، أصحهما نعم ، والثاني : لا ، لندور خروجهن ، [ ص: 327 ] فلا حاجة إلى التميز ، فعلى الأصح قال الشيخ أبو حامد : يجعل الزنار فوق الإزار ، وفي " التهذيب " : وغيره تحته لئلا يصف بدنها ، وأشار بعضهم إلى اشتراط ظهور شيء منه .

قلت : هذا لا بد منه ، وإلا فلا يحصل كبير فائدة . والله أعلم .

والتميز في الحمام يبنى على أنه هل يجوز لهن دخوله مع المسلمات ؟ قال البغوي : والأصح منعه ، وقد يفهم من هذا السياق أن للمسلمات دخوله بلا حجر ، لكن نقل الروياني وغيره عن ابن أبي هريرة أنه قال : لا يجوز لهن دخوله إلا لضرورة .

قلت : الأصح الأشهر أنه لا يحرم عليهن ، لكن يكره إن لم يكن عذر ، وبهذا قطع الإمام أبو بكر السمعاني المروزي من أصحابنا ، وقد أوضحت مسائل الحمام وما يتعلق به في آخر صفة الغسل من شرح " المهذب " . والله أعلم .

وإذا خرجت ذمية بخف ، فليكن أحد خفيها أسود والآخر أبيض أو أحمر ، ولا يشترط التميز بكل هذه الوجوه ، بل يكفي بعضها .

فرع

للذمي أن يتعمم ويتطلس على الصحيح ، ويلبس الديباج على الأصح ، كرفيع القطن والكتان ، وذكر الغزالي وجهين في أن أصل الغيار واجب أم مستحب ؟ والذي يوافق كلام الجمهور وإطلاقهم الوجوب .

الخامس : الانقياد للحكم ، فيلزم أهل الذمة الانقياد لحكمنا ، هكذا أطلقه الأصحاب ، وحكى الإمام عن العراقيين أن المراد أنهم إذا [ ص: 328 ] فعلوا ما يعتقدون تحريمه ، يجري عليهم حكم الله تعالى فيه ، ولا يعتبر رضاهم ، وذلك كالزنى والسرقة ، فإنهما محرمان عندهم كشرعنا ، وقد بينا حكمهما في البابين ، وذكرنا الفرق بين أن يزني بمسلمة ، ويسرق مال مسلم ، أو يزنى بذمية ، ويسرق مال ذمي ، وأما ما يعتقدون حله ، فقد سبق أن حد الشرب لا يقام على ذمي على الأصح وإن رضي بحكمنا ، ولو نكح مجوسي محرما له ، لم يتعرض له ، فإن رفعوا إلينا ورضوا بحكمنا ، حكمنا ، وهل يجب الحكم ؟ فيه القولان المعروفان ، ويلزمهم كف اللسان ، والامتناع من إظهار المنكرات ، كإسماع المسلمين شركهم ، وقولهم ثالث ثلاثة ، واعتقادهم في المسيح وعزير - صلى الله عليه وسلم - وإظهار الخمر والخنزير والناقوس وأعيادهم وقراءتهم التوراة والإنجيل ، وإحداثهم الكنائس في بلادنا ، وإطالتهم البناء ، وتركهم مخالفة لما شرط ، فإن أظهروا شيئا من هذه ، منعوا وعزروا ولكن لا ينتقض به عهدهم ، سواء شرط الامتناع منها في العقد أم لا ، فإن شرط عليهم الانتقاض بهذه الأسباب ، فقال الإمام : يبنى ذلك على الخلاف في صحة عقد الذمة مؤقتا ، إن صححناه ، صح العقد ، فينتقض إذ أظهروا ، وإن لم نصححه ، فسد العقد من أصله ، والحكاية عن الأصحاب أنه لا ينتقض ، بل يفسد الشرط ، ويتأبد العقد ، ويحمل ما جرى على تخويفهم ، وينتقض عهدهم بقتالهم المسلمين ، سواء شرط عليهم الامتناع منه أم لا ، هذا إذا لم تكن شبهة ، فلو أعانوا البغاة ، وادعوا أنهم لم يعرفوا الحال ، فقد سبق بيانه في قتال البغاة ، ولو منعوا الجزية ، أو امتنعوا من إجراء أحكام الإسلام عليهم ، انتقض عهدهم ، هكذا قاله الأصحاب ، قال الإمام : هذا إذا منع مع القدرة ، فأما العاجز إذا استمهل فلا ينتقض عهده ، قال : ولا يبعد أن يقال : تؤخذ الجزية من الموسر الممتنع قهرا ، ولا يجعل الامتناع ناقضا كسائر الديون ، ويخصص ما قاله الأصحاب بالمتغلب [ ص: 329 ] المقاتل ، قال : وأما الامتناع من إجراء الأحكام ، فإن امتنع هاربا ، فلا أراه ناقضا ، وإن امتنع راكبا إلى قوة وعدة ، فينبغي أن يدعى إلى الانقياد ، فإن نصب القتال ، انتقض عهده بالقتال ، ثم أسند الإمام ما ذكره من الاحتمال إلى من تقدمه ، فحكى عن القاضي حسين حصر الانتقاض في القتال ، ونقل ابن كج قولين في امتناعهم من إجراء الأحكام ، وعن " الحاوي " أن الامتناع من البدل نقض العهد من الواحد والجماعة ، والامتناع من الأداء مع الاستمرار على الالتزام نقض من الجماعة دون الواحد ، لأنه يسهل إجباره عليه ، ولو زنى ذمي بمسلمة ، أو أصابها باسم نكاح ، أو تطلع على عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب ، أو فتن مسلما عن دينه ، ودعاه إلى دينهم ، ففي انتقاض عهده طرق ، أصحها : أنه لم يجر ذكرها في العقد ، لم ينتقض ، وإلا فوجهان ، ويقال : قولان ، أصحهما : لا ينتقض قطعا ، والثالث : إن شرط ، انتقض ، وإلا فوجهان ، وهل المعتبر في الشرط الامتناع من هذه الأفعال ، أم انتقاض العهد إذا ارتكبها ؟ صرح الإمام والغزالي بالثاني ، وكثيرون بالأول ، ولا يبعد أن يتوسط فيقال : إن شرط الانتقاض ، فالأصح الانتقاض ، وإلا ، فالأصح خلافه ، وألحق بالخصال الثلاث إيواء عيون الكفار ، وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص ، فالمذهب أنهما كالزنى بمسلمة ، وقيل : كالقتال ، ولا يلحق بالمنابذة التوثب على رفقة ، أو شخص معين ، وليجر الطريقان فيما لو قذف مسلما ، وسواء قلنا : ينتقض العهد ، أو لا ينتقض ، فقد قال البغوي : يقام عليهم موجب ما فعلوه من حد أو تعزير ، ثم يجري على مقتضى الانتقاض كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وإذا قتل الذمي لقتله مسلما ، أو لزنى وهو محصن ، فهل يصير ماله فيئا تفريعا على الحكم بالانتقاض ؟ وجهان . [ ص: 330 ] قلت : أصحهما .

وأما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسوء إذا جهروا به ، وطعنهم في الإسلام ونفيهم القرآن ، فالمذهب أنه كالزنى بمسلمة ونحوه ، وقيل : ينتقض قطعا ، كالقتال ، وفي محل الخلاف طريقان ، أحدهما : أنه فيما إذا ذكر الذمي سواء يعتقده ويتدين به ، كتكذيب ونحوه ، فأما ما لا يعتقده ، ولا يتدين به ، بأن طعن في نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو نسبه إلى الزنى ، فليلتحق بالقتال ، وينتقض العهد به قطعا سواء شرط عليه الكف عنه أم لا ، وأصحهما : أن الخلاف فيما إذا ذكر ما لا يتدين به ، فأما ما يتدين به ، فلا ينتقض بإظهاره قطعا ، ومن هذا نفيهم القرآن .

واعلم أن ذكرهم الله تعالى كذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى ، فيجري فيه الخلاف ، صرح به الروياني وغيره ، ولكنهم جعلوا إظهار الشرك ، وقولهم ثالث ثلاثة ، ومعتقدهم في المسيح وعزير ، كإظهارهم الخمر ، فلا ينتقض قطعا ، مع أن جميع هذا يتضمن ذكر الله تعالى بالسوء ، ولا يستقيم هذا إلا على الطريق الثاني ، وهو أن السوء الذي يتدين به لا ينقض قطعا ، ونقل صاحب " الشامل " وغيره عن أبي بكر الفارسي أنه قال : من شتم منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل حدا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلابن خطل والقينتين ، وزيفوه وقالوا : إنهم كانوا مشركين لا أمان لهم .

[ ص: 331 ] فرع

حيث حكمنا بانتقاض العهد ، هل يبلغهم المأمن ؟ قولان ، أحدهما : نعم كمن دخل بأمان صبي ، وأظهرهما : لا ، بل يتخير الإمام بين قتله واسترقاقه ، والمن والفداء ، لأنه كافر لا أمان له ، والقولان في الانتقاض بغير قتال ، فأما إذا نصبوا القتال ، وصار حربا لنا في دارنا ، فلا بد من دفعهم ، والسعي في استئصالهم ، ولو أسلم من انتقض عهده قبل أن يختار الإمام شيئا ، قال الأصحاب : لا يجوز استرقاقه بخلاف الأسير ، لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر ، فخف أمره ، وهل يبطل أمان النساء والصبيان تبعا كما يثبت تبعا ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، إذا لم توجد منهم خيانة ناقضة ، فعلى هذا لا يجوز سبيهم ، ويجوز تقريرهم في دارنا ، فإن طلبوا الرجوع إلى دار الحرب ، أجيب النساء دون الصبيان ، إذ لا حكم لقولهم قبل البلوغ ، فإن كان الطالب ممن يستحق الحضانة ، أجيب إليه ، وإلا فلا ، ولو نبذ ذمي إلينا العهد ، واختار اللحوق بدار الحرب ، بلغناه المأمن على المذهب ، وأجرى القاضي حسين فيه القولين ، لأنه كافر لا أمان له .

[ ص: 332 ] فرع

المسلم إذا ذكر الله تعالى بما يقتضي الكفر ، أو كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو مرتد ، فيدعى إلى الإسلام ، فإن عاد وتاب ، قبلت توبته ، ولو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا ، فعن الشيخ أبي محمد أنه يكفر ويراق دمه ، قال الإمام : وهذه زلة ، ولم أر ما قاله لأحد من الأصحاب ، والصواب أنه يعزر ، ولا يكفر ، ولا يقتل ، وما روي أن رجلا أتى قوما ، وزعم أنه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأكرموه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بقتله ، محمول على أن الرجل كان كافرا ، ومن قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرح بنسبته إلى الزنى ، فهو كافر باتفاق الأصحاب ، فإن عاد إلى الإسلام فثلاثة أوجه ، أحدها : قال الأستاذ أبو إسحاق : لا شيء عليه ، لأنه مرتد أسلم ، والثاني قال أبو بكر الفارسي يقتل حدا ، لأنه حد قذف ، فلا يسقط بالتوبة ، والثالث قال الصيدلاني : يجلد ثمانين جلدة ، ثم في كلام الإمام والغزالي أنا إذا قلنا : يثبت حد القذف ، فعفا أحد بني أعمامه ، فينبغي أن يسقط ، أو يقول : هم لا ينحصرون ، فهو كقذف ميت ليس له ورثة خاصون ، ولا يبعد تخريج وجوب الحد على القولين في وجوب القصاص بقتل مثل هذا الشخص ، وقد يقال : كل واحد من بني الأعمام غير وارث ، بل الإرث للأقرب ، ولا يكاد يعرف الأقرب ممن في الدنيا ، ويقع النظر في أن عفو بعض الورثة هل يؤثر ؟ ووراءه نظر آخر ، وهو حد قذفه هل يورث ؟ فيجوز أن يقال : لا يورث ، كما لا يورث المال ، أما إذا لم يقذف صريحا ، لكن عرض ، فقال الإمام : الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر لما فيه من الاستهانة .

[ ص: 333 ] قلت : هذا الذي قاله الإمام متعين ، وقد قاله آخرون ، ولا نعلم فيه خلافا . والله أعلم .

ولو قذف نبيا غير نبينا ، فهو كقذف نبينا ، صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية