صفحة جزء
[ ص: 334 ] الباب الثاني في عقد الذمة

ويقال لها : الموادعة ، والمعاهدة ، وهي جائزة بنصوص الكتاب والسنة والإجماع ، فيه طرفان : الأول : في شروطها وهي أربعة : الأول : أن يتولاه الإمام أو نائبه فيه ، هذا في مهادنة الكفار مطلقا ، أو أهل إقليم ، كالهند والروم ، ويجوز لوالي الإقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة في إقليمه للمصلحة ، وكأنه مأذون فيه بتفويض مصلحة الإقليم إليه . ولو عقد الهدنة واحد من الرعية ، فدخل قوم ممن هادنهم دار الإسلام ، لم يقروا ، لكن يلحقون بمأمنهم ، لأنهم دخلوا على اعتقاد أمانه .

الثاني : أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة ، بأن يكون في المسلمين ضعف لقلة عدد أو مال ، أو بعد العدو ، أو يطمع في إسلامهم لمخالطتهم المسلمين ، أو في قبولهم الجزية ، أو في أن يعينوه على قتال غيرهم ، وإذا طلب الكفار الهدنة ، فإن كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون ، وإلا فوجهان ، أحدهما : تجب إجابتهم ، والصحيح : لا تجب ، بل يجتهد الإمام ويفعل الأصلح ، قال الإمام : وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد واجبا ، وإن كان يتعين عليه رعاية الأصح .

الثالث : أن يخلو عن الشروط الفاسدة ، فإن عقدها على أن لا ينتزع أسرى المسلمين منهم ، أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه ، وأفلت منهم ، أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم ، فهذه شروط فاسدة ، وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل من دينار ، أو على أن يقيموا [ ص: 335 ] بالحجاز ، أو يدخلوا الحرم ، أو يظهروا الخمور في دارنا ، أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات ، وكذا ولو عقد بشرط التزام مال ، فإن دعت ضرورة إلى بذل مال ، بأن كانوا يعذبون الأسرى في أيديهم ففديناهم ، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطدام ، فيجوز بذل المال ، ودفع أعظم الضررين بأخفهما ، وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل .

قلت : ليس هذا البناء بصحيح ، فقد سبق أن الصائل إذا كان كافرا ، وجب دفعه قطعا ، ثم الخلاف هناك في وجوب الدفع بالقتال ، وهنا بالمال ، والأصح وجوب البذل هنا للضرورة . والله أعلم .

ولا يملك الكفار ما يأخذونه ، لأنه مأخوذ بغير حق ، قاله في " المهذب " وإذا جرى في المهادنة شرط فاسد ، فسد به العقد على الصحيح ، وبه قطع ابن الصباغ وغيره .

الرابع : أن يقتصر على المدة المشروعة ، ثم لا يخلو إما أن لا يكون بالمسلمين ضعف ، أو يكون ، فإن لم يكن ورأى الإمام المصلحة في الهدنة ، هادن أربعة أشهر فأقل ، ولا يجوز أكثر من سنة قطعا ، ولا سنة على المذهب ولا ما بينهما وبين أربعة أشهر على الأظهر وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة ، ولا تجوز زيادة على العشر ، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية ، استؤنف العقد ، وقيل : تجوز الزيادة على عشر بحسب الحاجة ، وقيل : لا يجوز أكثر من سنة ، وقيل : لا يجوز أكثر من أربعة أشهر ، وهذه أوجه شاذة مردودة ، فإذا قلنا لا تجوز الزيادة على عشر ، فهادن مطلقا ، فالعقد فاسد ، وقيل : ينزل عند ضعف المسلمين على عشر ، وعند القوة قولان ، [ ص: 336 ] أحدهما : ينزل على سنة ، والثاني : على أربعة أشهر ، ويجوز أن لا يوقف الإمام الهدنة ، ويشرط انقضاءها متى شاء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هادن يهود خيبر وقال : " أقركم ما أقركم الله " لكن لو اقتصر الإمام على هذه اللفظة ، أو قال : هادنتكم إلى أن يشاء الله فسد العقد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره ، ولو قال : هادنتكم ما شاء فلان ، وهو مسلم عدل ذو رأي ، فإذا نقضها ، انتقضت ، ولو قال : ما شاء فلان منكم ، لم يجز ; لأن الكافر لا يحكم على المسلمين .

فرع

إذا زاد قدر مدة الهدنة على الجائز ، بأن زاد عند الضعف على عشر سنين ، أو احتاج إلى أربع مثلا ، فزاد ، بطل العقد في الزائد ، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة ، وقيل : يصح فيه قطعا لعدم العوض ، ولأنه يتسامح في معاقدة الكفار .

فرع

إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله تعالى ، وجبت إجابته قطعا كما سبق ، قال الإمام : وهل يمهل لذلك أربعة أشهر أم يقال : إذا لم يفصل الأمر بمجالس يحصل فيها البيان التام يقال له : الحق بمأمنك ؟ فيه تردد أخذته من فحوى كلام الأصحاب ، والأصح : المنع .

التالي السابق


الخدمات العلمية